
ظلال قابيل: بين الرواية والأسطورة

منير الحايك
لطالما ظهر قابيل في الأعمال الأدبية، الشعرية منها والنثرية، بوصفه رمزا من رموز تلك النصوص، أو في العنوان بوصفه المدخل لنصّ ما، أو يظهر بطلاً للرواية كما فعل خوسيه ساراماغو، فسرد القصة من وجهة نظر جديدة. ولكن في رواية الكاتبة الإماراتية لطيفة الحاج «ظلال قابيل» (الدار العربية للعلوم ناشرون 2024) تظهر ظلاله التي ما زالت تسيطر على دواخل النفس البشرية، بوصفه القاتل الأول، والملهم الأول للقتل والقاتلين من أبناء الجنس البشري. الرواية تحكي قصة شاهين وريما، وبينهما جواهر، وجدة شاهين، وعمته، وفي نهاية القصة يظهر والد ريما الخائن، أو المتهم بالخيانة التي كانت سبب موته، والذي تستمر زوجته بالدفاع عنه حتى بعد كل ما قيل عن سبب الحادث والمرأة التي كانت معه عندما حصل. يكبر شاهين بطريقة مختلفة عن باقي الأطفال، تربيه «الشمطاء» التي تستمر بالظهور في لاوعيه محرّضة إياه على القتل، هي التي ربّته على ذلك بحجة أن ينشأ قويّا بعد أن أصبح يتيما، من ثم ينتقل للعيش مع عالية، عمته التي ظهرت بوصفها صاحبة القصص الكثيرة التي أثرت في نشأته وما سيصبح عليه. تلك القصص التي جعلت منه يكبر قبل أترابه كما يخبرنا.
ريما تسرد لنا قصصها، وهي في غيبوبة داخل مستشفى، ووالدتها جواهر إلى جانبها طيلة الوقت، ريما التي تسترجع الكثير من حياتها، خصوصا مع والدتها، التي تكون صديقتها الأولى، والتي ضحّت في حياة كانت لتكون مختلفة لو أنها تزوّجت بعد والدها. قد يكون السرد لشخص في غيبوبة غير منطقي، فالنص يؤكد على أنها تسمع وتفهم كل ما يدور حولها، من دون ردود أفعال أو صحوة ما، ولكن لا بأس فليكن للجديد دوره هنا كأنه تحدّ للموت والاستسلام، على حساب الموت المسيطر على حياة شاهين.
يتبادل شاهين وريما السرد، نعرف الكثير عن طفولة شاهين وكيف وصل به الأمر ليستجيب لصوت «الشمطاء» فيقتل من يجد له أسبابا للقتل والتخلص منه، إلى أن تصل بنا الرواية ليلتقي بجواهر، وهو في حياته العادية يعمل فنّيّا للأدوات الطبية في المشفى، حيث ترقد ريما، وريما التي تسرد من خلف الوعي متمسكة بالحياة، وهنا المفارقة الأبرز في الرواية، التي تعطيها القيمة الرئيسية، خصوصا عندما نعود إلى العنوان، وإلى العبارات الافتتاحية عند كل فصل، والمتعلقة كلها بالقتل والموت، فتكون ريما هي الرمز القوي لتمسك الإنسان بالحياة وقيمة ذلك التمسك.
من قرأ رواية جلال برجس «دفاتر الوراق»، حيث تنتفخ بطن البطل ويسمع صوتا يحثه على القتل، قد يجد أن الحاج استخدمت الفكرة هنا بشكل واضح، يمكن لنا أن نعيد الأمر إلى التناص، ولكن الأمر أبسط وأقل قوّة ليقنعنا بذلك، ففكرة القتل عند شاهين لم تتطور لتخلق ذلك القاتل الإشكالي، بل بقيت في حدود لم تفاجئ المتلقي، أو تقنعه، فما قام به في النهاية كان متوقعا، وحتى العلاقة التي جمعته، بشكل مفاجئ وسريع، وبشكل غير مقنع بجواهر، كانت في رأيي إحدى نقاط الضعف في النص.
تنتهي الرواية بموت البطل، وهي ما يحتج عليه بعض النقاد بأنه طالما مات فكيف استطاع أن يروي، ولكن الأمر مبرر لأن النص اعتمد على الأزمات النفسية بوصفها مسيّرة ومؤثّرة على الشخصية، حتى ريما ومبرر سردها، كما سبق وذكرت قد يكون غير مقنع، ولكن الرواية المعاصرة، وكاتب الرواية يحق له التجريب طالما أنه سيقدم نصّه وقضاياه بشكل مدروس.
بعض القضايا الاجتماعية كانت حاضرة في النص، وإن لم تركز الكاتبة عليها على حساب السرد، كالتحرش بالأطفال، والخيانة الزوجية، والصداقة والعلاقات الأسرية، قدمتها بشكل سريع، حثّت فيها القارئ على التفكير بها، ولكنها لم تتدخل كثيرا في توجيهه، وهنا نقطة قوة وحنكة من الكاتبة، تحسب لها وللنص.
اللغة هي العنصر الأقوى في الرواية، فيها عذوبة وسلاسة جاذبة ومقنعة، كل شخصية تأخذ حقها وتنطق بما يناسبها، ابتعدت قدر الإمكان عن المحكية، وعندما وردت المحكية كانت ضرورية ومبررة، ولم تستخدم سوى القليل منها، وجاءت مفهومة وواضحة من خلال السياقات المختلفة. أما الأساس بالنسبة لي في أهمية أي نص يخرج إلى المتلقين، فهو موقعه في سياقه الاجتماعي والأدبي والثقافي، بالنسبة إلى البيئة التي يخرج منها، وهنا أؤكد على أن هذا النص يبقى رافدا للتجربة الأدبية الإماراتية، التي بدأت بأن تثبت موقعها على الساحة الأدبية العربية. هو نص فيه جهد وتعب، ولكن كان ينقصه بعض القطب من جهة تطور الشخصية وجعلها إشكالية بشكل أعمق، خصوصا أن الكاتبة قررت أن تعطي شخصياتها هذه الصفة، وخصوصا شاهين وريما.
كاتب لبناني