ترامب وغزة: هل حقاً الكرة في الملعب العربي؟

ترامب وغزة: هل حقاً الكرة في الملعب العربي؟
إبراهيم نوار
تخبرنا الصورة في غزة أن تداعيات سلبية تتراكم، تشمل التهديد الإسرائيلي باستئناف حرب الإبادة، والضغط لتعديل اتفاق الدوحة بغرض استعادة المحتجزين كافة الأحياء والأموات، قبل بداية المرحلة الثانية من الاتفاق، ومنع دخول وحدات الإيواء المؤقت إلى غزة، المنصوص على دخولها في إطار الترتيبات الإنسانية، واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وانتقالها إلى جنوب غزة، مع التركيز على رفح، وتأخير إعلان الموقف النهائي للحكومة الأمنية الإسرائيلية من ترتيبات المفاوضات الجادة بشأن مفاوضات المرحلة الثانية التي كان من المفترض أن تبدأ عمليا وليس شكليا في 3 من الشهر الحالي، ثم أخيرا تصريح ترامب بطلب تعديل الاتفاق، وإعلانه تأييد إسرائيل في أي قرار تتخذه في هذا الخصوص.
هذه كلها مؤشرات تؤكد دبلوماسية الخداع والتضليل، وتكريس الاستفادة من عنصر الوقت في تعزيز قوة إسرائيل العسكرية، لتمكينها من استعادة القدرة على الردع، التي فقدتها في 7 أكتوبر 2023. مستقبل غزة ليس إذن في الملعب العربي. ترامب أعلن خطته، ثم قال للأطراف الأخرى ما معناه: هاتوا ما عندكم! هو لم يتوقف انتظارا للإجابة، بل يمضي قدما ومعه نتنياهو الذي لم يكن يحلم بأن يصل خيال الرئيس الأمريكي إلى ما وصل إليه.
في هذا السياق تلقت إسرائيل خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة ما يصل إلى 2500 طن من الذخائر والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة، بعد قرار الرئيس الأمريكي الجديد بإنهاء تجميد إمدادات بعض الأسلحة الأمريكية، الذي فرضه الرئيس السابق. وقد تلقت إسرائيل حتى مساء السبت الماضي ما يقدر بحوالي 76 ألف طن من الذخائر والمعدات العسكرية على رأسها القنابل فائقة القوة التدميرية إم كي – 84 زنة 2000 رطل (900 كجم)، التي يرجح أن إسرائيل قد تستخدمها في ضرب إيران، إذ إنها ليست في حاجة لها في غزة. وطبقا لبيان أصدرته وزارة الدفاع، فإن الذخائر والمعدات العسكرية تدفقت عبر 678 عملية نقل جوي و129 عملية شحن بحري. وهو ما يمثل أكبر جسر للإمدادات العسكرية في تاريخ إسرائيل. هذا الجسر لم يتوقف بعد، ومن المرجح أن يستمر كعملية مفتوحة بلا نهاية، وفقا لما تريده إسرائيل. ولهذا السبب فإننا يجب أن نعرف أن حكومة نتنياهو سوف تتصلب في شروط العودة إلى المفاوضات بشأن المرحلة الثانية من اتفاق غزة. وليس من المستبعد أن يكون هناك تفاهم بين نتنياهو وترامب على تفريغ غزة من سكانها بالترهيب، جنبا إلى جنب مع استخدام أدوات الترغيب في الرحيل طوعا إلى جهات تقوم الوكالة اليهودية بترتيبها في أنحاء مختلفة من العالم، مع تقديم حوافز مادية للفلسطينيين الراغبين في الرحيل.
ترامب أعلن خطته، ثم قال للأطراف الأخرى ما معناه: هاتوا ما عندكم! هو لم يتوقف انتظارا للإجابة، بل يمضي قدما ومعه نتنياهو الذي لم يكن يحلم بأن يصل خيال الرئيس الأمريكي إلى ما وصل إليه
تاريخ اللاءات غير مشرف
استخدمت الدبلوماسية العربية منذ نهاية حرب يونيو 1967 أسلوب الرفض، بإعلان اللاءات الثلاث المشهورة في قمة الخرطوم بعد الحرب: (لا سلام – لا صلح – لا استسلام). لكن الدول العربية لم تفعل شيئا لتحويل هذه اللاءات إلى محركات لتغيير الأمر الواقع، باستثناء ما قامت به مصر في أكتوبر 1973، لاسترداد سيناء، مقابل السلام مع إسرائيل. الآن يعلن الحكام العرب رفض تهجير الفلسطينيين، بينما يتعرضون للصفعات مرة وراء مرة، من نتنياهو ومن ترامب، من دون الرد بإجراءات عملية لإثبات أن الدبلوماسية العربية لها أسنان، بفضل ما تملك من مقومات القوة النفطية والمالية والجيوستراتيجية. إذا لم تفعل الدول العربية شيئا، فإن مصير شعار «لا للتهجير» لن يكون أحسن من مصير لاءات الخرطوم الثلاث. ومع إنني لا أميل إلى تكرار ما ذكرته سابقا، أجد أنه من الضروري إعادة التذكير بما طرحته من إجراءات عملية مطلوبة في مقالي الأسبوع الماضي على هذه الصفحة، حيث قلت: «نقترح أن تتضمن هذه الإجراءات منع مرور الطائرات الإسرائيلية في الأجواء الإقليمية العربية، وتعليق اتفاقيات التطبيع والتعاون مع إسرائيل، وتجميد المشاركة في أنشطة القيادة العسكرية الأمريكية كافة في الشرق الأوسط، بوصفها تمثل المنصة المتقدمة للتعاون العسكري العملياتي مع إسرائيل، والانضمام إلى دعوى جنوب افريقيا القضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، ومساندة جهود القبض على نتنياهو ومساعديه والعسكريين المتورطين في جرائم حرب الإبادة ضد الفلسطينيين». إذا مرت الأعمال العدائية الأمريكية – الإسرائيلية، بما تحمله من تكلفة باهظة على الفلسطينيين والدول العربية المعنية، خصوصا مصر والأردن والسعودية بلا رد؛ فإن الأمور سوف تزداد تعقيدا في غزة والمنطقة ككل في الأسابيع والأشهر المقبلة. موقف الدول العربية كما يبدو حتى الآن، يتجاهل الرد على خطة التهجير وانتهاك إسرائيل لاتفاق الدوحة بشأن وقف النار في غزة، ومنع دخول مساكن الإيواء المؤقت للفلسطينيين في غزة، الذين يعيشون في العراء في برد الشتاء القارس. ونقول إن هذا الموقف لا يفيد الدول العربية المعنية، ولا يفيد الفلسطينيين. لأن كلا من نتنياهو وترامب سيعلم علم اليقين، أن ادعاء الرفض وترديد شعارات مثل «لا للتهجير» هي مجرد حشرجة صوتية لإلهاء الرأي العام المحلي، لا تعني شيئا يقف في وجه مشروع إبادة الهوية الفلسطينية. موقف نتنياهو ضد محاولة مصر، وهي أحد أطراف اتفاق الدوحة، إدخال مساكن للإيواء المؤقت، ورفض الانسحاب من ممر فيلادلفيا، يعني أن إسرائيل ما تزال تحاصر قطاع غزة، وتتحكم في دخول المساعدات الإنسانية، وأنها تنتهك الاتفاق، من دون أي اعتبار لكل الأطراف.
التلاعب بالمفاوضات
ما نحذر منه الآن، على ضوء المفاوضات الجارية بشأن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، الذي انتهكته إسرائيل من جانب واحد، وعرقلت تنفيذه برفض الانسحاب طبقا للجدول الزمني المتفق عليه، سوف يتكرر في مفاوضات غزة. المفاوضات التي جرت في الأسبوع الماضي في «الناقورة» برئاسة الولايات المتحدة، ومشاركة فرنسا، مع ممثلين عن كل من الجيشين الإسرائيلي واللبناني تثبت أن إسرائيل تلجأ لاستخدام تكتيكات مراوغة لفرض تعديل وراء الآخر على اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان حتى يتم إفراغه من مضمونه، وتحقيق ما كانت تريده من إقامة منطقة أمنية داخل الأراضي اللبنانية. وطبقا لبيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية يوم 14 من الشهر الحالي فقد صرح الرئيس المُشارك من طرف الولايات المتحدة الجنرال غاسبر جيفرز بالقول: «لقد أحرزنا تقدما كبيرا على مدى الأشهر القليلة الماضية، وأنا واثق من أن الجيش اللبناني سيسيطر على المراكز السكانية كافة في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني بحلول يوم الثلاثاء (18 من الشهر نفسه)».
لاحظ أن تصريح الجنرال جيفرز قال إنه «واثق» من أن الجيش اللبناني سيسيطر على «المراكز السكانية كافة في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني»، ولم يذكر على الإطلاق أن إسرائيل «التزمت» بالانسحاب. كذلك ذكر أن الجيش اللبناني سيسيطر على «المراكز السكانية كافة في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني» ولم يذكر «الأراضي اللبنانية كافة الواقعة جنوب النهر». وهو نص قد يمهد لاستمرار وجود الجيش الإسرائيلي خارج المراكز السكانية جنوب نهر الليطاني. ومن خبرتي الشخصية في المفاوضات، أتوقع أن ينشأ خلاف بشأن تعريف «المركز السكاني»، وهو ما قد يترتب عليه إعادة توطين السكان في جنوب لبنان، لتوسيع مساحة المنطقة الأمنية أو المنطقة العازلة، ثم إقامة مواقع لتمركز الجيش الإسرائيلي، أي أن مسار المفاوضات يشير إلى تغليب مطالب إسرائيل الأمنية على اعتبارات السيادة اللبنانية.
وإذا كان أحد السيناريوهات، التي طرحتها إسرائيل للانسحاب من غزة، يتضمن الانسحاب من المراكز السكانية فقط، مع استمرار الوجود العسكري خارج المدن والقرى، واستمرار السيطرة الكاملة على الحدود والمنافذ، فإن مسألة الانسحاب النهائي من غزة تصبح محل شك، وتحتاج إلى ضغوط دبلوماسية، وعملية من جانب الدول العربية لمنع إسرائيل من الاستفراد بالفلسطينيين في قطاع غزة، كما كان الحال خلال الحرب.
إن على الدول العربية أن تعلم أنها بموقفها الحالي إنما تستعرض قدرتها على اللعب خارج الملعب وليس داخله، عندما لا ترد، مثلا، على قيام إسرائيل بمنع دخول وحدات الإيواء المؤقت المتنقلة، في حين أن الدول العربية مشغولة بالدعوة لعقد مؤتمر لإعادة بناء غزة. اللعب خارج الملعب لا قيمة له، بل إنه يدعو للسخرية. فكيف لمن يعجز عن إدخال مساكن جاهزة للإيواء المؤقت أن يدعو العالم إلى الإعمار؟! النقطة الأخيرة التي نعيد التأكيد عليها، هي أن الدبلوماسية العربية ترتكب حماقة تاريخية لا تغتفر، إذا هي اعتقدت أنها تستطيع أن تحقق بالدبلوماسية المراوغة ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بأكبر حرب خاضتها في تاريخها، وهو القضاء على حماس. وقد بدأنا فعلا نسمع طنين حرب الحكومات العربية على حماس في بيانات السياسيين وفي أبواق الدعاية الشمطاء.
كاتب مصري