الصحافه

“الأونروا” في المؤشر العالمي.. إما الحق الفلسطيني أو الخضوع لـ “الزعرنة” وقبول الكارثة الإنسانية

“الأونروا” في المؤشر العالمي.. إما الحق الفلسطيني أو الخضوع لـ “الزعرنة” وقبول الكارثة الإنسانية

دخل إلى حيز التنفيذ في الشهر الماضي قانون “وقف نشاطات الأونروا في أراضي دولة إسرائيل” الذي تم سنه في الكنيست في 28/10/2024. يتضمن القانون قرارين يكمل أحدهما الآخر. الأول يمنع الأونروا، (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة) من العمل في الأراضي السيادية لإسرائيل، أي أنه يسري على نشاطات الوكالة في شرقي القدس. والثاني يعلن عن وقف علاقات العمل واتصالات إسرائيل مع الوكالة، وإلغاء التزام إسرائيل من العام 1967 بمنح الحماية وحرية الحركة لموظفي الوكالة في المناطق المحتلة.

لا يمكن أن تمنع إسرائيل الوكالة من العمل في الضفة والقطاع لأنها خارج أراضيها السيادية. ولكن ما دامت تواصل السيطرة بالفعل على هذه المناطق وعلى المعابر المؤدية إليها فإن وقف علاقات العمل مع الأونروا وحرمان موظفيها من الحماية وحرية الحركة يشبه فرض شلل شبه مطلق على الوكالة. بدون مصادقة السلطات الإسرائيلية، لن تستطيع الأونروا استخدام موانئ إسرائيل لنقل المنتجات الغذائية والأدوية والمعدات الطبية والوقود والمياه في النقاط الحدودية والمعابر التي هي تحت سيطرة إسرائيل ونقلها إلى منشآتها ومؤسساتها في القطاع والضفة. بدون مصادقة الجيش والتنسيق معه، سيكون طواقم الطوارئ التابعة للوكالة والطواقم الطبية والسائقون وموزعو المساعدات والممرضون، جميعهم معرضين لخطر دائم على حياتهم.

مبادرة وقف نشاطات الوكالة ولدت قبل الحرب في غزة بفترة طويلة. وجاء مصدرها من عداء إسرائيل لهذه المنظمة التي تجسد التزام المجتمع الدولي باللاجئين الفلسطينيين. الحرب وفرت الفرصة للمضي بهذا القانون، والاتهامات التي تقول بأن بعض موظفي الوكالة شاركوا في مذبحة 7 أكتوبر (في كانون الثاني 2024 ادعت إسرائيل بأن لديها دلائل ضد 12 من بين الـ 13 ألف موظف في الوكالة في قطاع غزة)، وفرت لها الذريعة.

 تم عرض القانون كعملية وقائية أمام “منظمة معادية لدولة إسرائيل، التي تم ضبطها وهي تتعاون مع منظمات الإرهاب وتشكل خطراً على أمن الدولة”، (قال عضو الكنيست يولي أدلشتاين في جلسة الكنيست في 28/10/2023). هذا رغم غياب أدلة على وجود تعاون بين الأونروا كمنظمة، وحماس، ومن ثم تورط الوكالة بالإرهاب. قالت لجنة تحقيق مستقلة برئاسة وزيرة خارجية فرنسا السابقة، كاثرين كولونا، التي عينها السكرتير العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بأن إسرائيل لم تقدم أي أدلة على اتهاماتها.

إذاً، ما الذي يقف قانونياً ضد الأونروا؟ لا يمكن الإجابة عن ذلك بدون وصف وفهم أولاً الكارثة التي ينطوي عليها تطبيق القانون إزاء ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، الذين يعتمدون على مساعدات طارئة وخدمات اجتماعية من الوكالة. المس الشديد والفوري هو لسكان القطاع الذين سيكون استمرار بقائهم في الفترة الأخيرة – بعد النجاة من الـ 15 شهراً من القتل الجماعي وتدمير بيئة العيش والتهجير المتكرر والتعطيش والتجويع والأمراض، مرهوناً بقدرة جهات الإغاثة على مواصلة توفير الخدمات التي تنقذ حياتهم.

 الأونروا هي منظمة الإغاثة الدولية الأقدم والأكبر والأكثر تجذراً العاملة في القطاع، وهي الوحيدة التي تملك بنية تحتية ممأسسة وموارد إنسانية وخبرة، تسمح لها بتزويد أعداد كبيرة من السكان خدمات صحية وطبية حيوية ومناطق إيواء ومواد غذائية أساسية حتى في حالات الطوارئ الشديدة والطويلة.

تميز الأونروا هذا ما زال قائماً حتى الآن رغم حجم مس متراكم بقدرتها على تقديم ما يلزم المتضررين جراء الهجوم الإسرائيلي في القطاع. والمس بقدرتها لا ينبع فقط من عدد المصابين الذي يشمل تقريباً جميع سكان القطاع، بل أيضاً لأن نشاطات الإنقاذ والمساعدة، والمؤسسات والتنظيمات التي تنفذها، أصبحت هدفاً هي الأخرى لهجمات الجيش.

حتى بداية كانون الثاني 2025 تضرر 201 مؤسسة ومنشأة تابعة للوكالة في عمليات القصف، من بينها عيادات ومراكز مجتمعية ومؤسسات تعليم ومخازن وعشرات المدارس من بين الـ 150 مدرسة، التي تحولت إلى مناطق إيواء لمئات آلاف المهجرين. ليس أقل من 745 شخصاً ماتوا في عمليات القصف أثناء الاحتماء بهذه المناطق، وأكثر من 2200 شخص أصيبوا. عشرات الآلاف، يبدو مئات الآلاف، اضطروا إلى ترك هذه المناطق المحمية والبحث عن مناطق إيواء بديلة. 262 من موظفي الوكالة قتلوا في عمليات القصف، عدد كبير منهم أثناء وجودهم في بيوتهم مع عائلاتهم، وآخرون أثناء أداء عملهم.

إن تهجير المواطنين القسري المتكرر قلص هامش العيش لمليون شخص الذين كان يتم قصفهم، وتركت لهم مساحة تبلغ عشرات الكيلومترات فقط. الجيش قطع الطريق أمام الأونروا من أجل الوصول إلى المناطق التي طلب من سكانها المغادرة، ومنعت من إيصال الخدمات إلى عشرات الآلاف الذين بقوا في أماكنهم رغم أوامر الإخلاء – من بينهم كبار سن ومرضى وأبناء العائلة الذين يعتنون بهم – وعشرات الآلاف الذين عادوا بعد فترة إلى ما كان يسمى ذات مرة بيوتهم، على أمل التمكن من ترميمها. هذا بدون ذكر العقبات اللانهائية التي وضعتها إسرائيل أمام إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع بشكل عام، ولمواطنين معينين فيه بشكل خاص، والعدد الكبير من القيود التي فرضتها على محتويات المساعدات.

أبعاد التخريب والتدمير، والإضرار بمؤسساتها وموظفيها ومنع وصولهم، أجبرت الأونروا على تغيير نمط عملها في حالات الطوارئ. إذا كان تحويل مدارس الوكالة إلى أماكن إيواء لمئات الآلاف الذين هربوا خوفاً من القصف في الهجمات السابقة هو جوهر المساعدة، وتوزيع المواد الغذائية الأساسية ومساعدة مئات آلاف العائلات، فقد أكدت الأونروا في الحرب الحالية على وصول الخدمات الصحية (بما في ذلك الصحة النفسية) لجمهور المهجرين في أماكن الإيواء أو في مخيمات المهجرين الكبيرة.

عالج موظفو الصحة التابعون للوكالة خلال الحرب حوالي 15 ألف شخص يومياً. هذه الخدمات شملت تقديم التطعيمات للأطفال والأولاد ومتابعة النساء الحوامل اللواتي يتعرضن للخطر ودعم النساء بعد الولادة وعلاج الأسنان والأمراض المزمنة وما شابه. مئات العاملين الاجتماعيين ومستشاري التعليم في الوكالة قدموا الدعم النفسي للأطفال والبالغين، بالأساس في إطار نشاطات مجموعات، التي شارك فيها مئات آلاف الأشخاص. في الوقت نفسه، استمرت الأونروا في توفير مياه الشرب (بعضها من آبار الضخ التي تقوم بصيانتها) وتوزيع الطحين ورزم الغذاء ومواد النظافة وجمع القمامة. الآن، تخيلوا حجم الكارثة المتوقعة إذا منعت إسرائيل الأونروا من الاستمرار في تشغيل منظومة المساعدات الطارئة في قطاع غزة.

لكن المساعدات الطارئة ليست المركب الرئيسي في نشاطات الأونروا في الأوقات العادية؛ فدورها الرئيسي خلال عشرات السنين هو تقديم خدمات التعليم لتجمعات اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم الأساسية في الشرق الأوسط مثل قطاع غزة، والضفة الغربية، والأردن، ولبنان وسوريا. 50 في المئة من ميزانيتها السنوية العادية، بتمويل التبرعات، موجهة لجهاز التعليم الذي يشغل 700 مدرسة أساسية وإعدادية إلى جانب كليات أكاديمية لإعداد المعلمين والمسؤولين عن التدريب المهني، وحوالي 20 ألف معلم ومعلمة، الذين جميعهم من خريجي جهاز التعليم فيها.

تعيش في القطاع المجموعة السكانية الأكبر من اللاجئين الذين يعتمدون على خدمات الوكالة. في السنة الدراسية 2022 – 2023 عملت في القطاع 284 مدرسة أساسية وإعدادية تابعة للوكالة، التي تعلم فيها 293.400 طالب وطالبة في الصفوف الأول حتى الصف التاسع، ودرس فيها 10 آلاف معلم ورجل تعليم. طلاب جهاز التعليم التابع للأونروا شكلوا 60 في المئة من الطلاب في المرحلة الأساسية والإعدادية، نصف إجمالي طلاب المدارس في القطاع.

منذ 7 أكتوبر 2023 وجهاز التعليم في القطاع في حالة شلل. حسب التقارير، فإن 90 في المئة من مؤسسات التعليم، من رياض الأطفال وحتى الجامعات، تضررت بسبب عمليات القصف، بعضها دمر بالكامل، وبعضها تضرر بدرجة مختلفة من الشدة، بما في ذلك عشرات مباني الأونروا التي أصبحت أماكن إيواء. آلاف الطلاب قتلوا، وعشرات الآلاف أصيبوا، وعشرات الآلاف أصبحوا أيتاماً أو فقدوا إخوتهم. إعادة بناء جهاز التعليم بكل لبناته، وقبل أي شيء آخر إعادة حوالي الـ 600 ألف طالب إلى أطر التعليم، تشكل التحدي أمام إعادة الترميم الأهم التي تقف الآن على الأجندة في القطاع. إن تقدم إعادة تأهيل التعليم هو الذي سيحدد إذا كان القطاع سيعود إلى الحياة أم لا.

الأمم المتحدة، التي تمدد جمعيتها العامة تفويض الأونروا كل ثلاث سنوات، ومنظمات الصحة والتعليم وحقوق الإنسان وحقوق الطفل التابعة لها تعمل بالتعاون معها، خرجت بعدة تصريحات غير مسبوقة في شدتها تدين التشريع الإسرائيلي وتحذر من تداعيات كارثية جراء تدمير الأونروا أو المس بنشاطاتها. ولكن هذه التصريحات لم ترافقها حتى الآن عملية تردع إسرائيل، مثل التهديد بفرض عقوبات أو تجميد عضويتها في مؤسسات الأمم المتحدة.

إذا لم يبادر المجتمع الدولي إلى حماية الأونروا من مؤامرة إسرائيل لتدميرها فلن يكون هذا فقط خضوعاً للزعرنة التي أصبحت منذ فترة طويلة جوهر سياسة إسرائيل، بل خيانة للالتزام بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، من خلال تحقيق حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة في حدود 1967.

مايا روزنفيلد

 هآرتس 21/2/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب