
رواية «مهنة سرية»… روحانية الشرق في مواجهة مادية الغرب

أشرف قاسم
ما بين جموح الكاتب وجنوح الفكرة يكون الواقع معلقاً بين حبلين، في ما يشبه المشنقة، هذا الواقع القبيح المشوه الذي يحاول الكاتب حيناً أن يجمله ليخفف من وطأته، وحيناً أن ينقله كما هو «بعبله» وقسوته وقبحه، دون تدخل منه، فهذا هو الواقع الذي ينبغي أن ينقله الكاتب للمتلقي بصدق وأمانة. منذ كتاباته الأولى وحتى روايته السابقة «عرش على الماء» يحفر محمد بركة عميقاً في بئر القداسة المزيفة، يكشف ويعري واقعاً يرتدي مسوح الرهبان، يفضح هذا الزيف الذي يرتدي ثياب الحقيقة، يفضح الحزن الذي يتوهم الفرح، يفضح الضعف الإنساني الذي يتوهم القوة، والتعاسة التي تتقمص زوراً دور السعادة.
في روايته الأحدث «مهنة سرية» يواصل بركة معركته مع تلك التناقضات التي نحياها، من خلال أسرة تتكون من أب شيخ وداعية كفيف البصر، وأم أجبرت على الزواج منه فكان النفور وكانت الخيانة مع «أونكل» «الغريب من ذوي الشوارب المبرومة، التي يقف عليها الصقر، لا يحط على بيتنا إلا في الأوقات التي يطول فيها غياب أبي، أونكل موجود دائماً لتصليح شيء ما»، وابن هو «علاء» تغدق عليه الأم من حنانها ومالها، فيرتبط بها وينفر من أبيه الشيخ الذي يلازم المسجد ربما هرباً من سعير الزوجة المتسلطة.
يشعر الأب الشيخ الضرير ببصيرته بما تفعله زوجته، ولكنه يؤثر الصمت، ويؤثر الغفلة، ربما حفاظاً على الأسرة وربما شعوراً بالضعف أمام تلك الزوجة. حتى الولد حينما يرى أمه في وضع مشين مع «أونكل» وتسأله: شفت؟ يهز رأسه بالإيجاب، وحين تسأله: ستقول لبابا؟ يهز رأسه بالنفي، ويبرر صمته عما رأى: «لم تحاول تبرير ما حصل، لم تكذب أو تستحم في ماء الهراء، منحتني منذ اللحظة الأولى كل الاحترام لعقلي، ومنحتها في المقابل كل التواطؤ مع فعلتها المتكررة». وفي مرة أخرى تقول له: أبوك غاوي فقر وأنا صغيرة ومن حقي أتمتع يومين. حتى «طنط وداد» صديقة أمه التي وضعتها أمه في طريقه، فكانت أول من تعرف من خلالها على جسد المرأة، كانت تستغله بعلم أمه في إطفاء شبقها.
يكبر علاء ويتخرج في كلية دار العلوم، وتبحث له الأم عن فرصة عمل في شرم الشيخ في محل لبيع العطور، وهناك يبدأ مهنته السرية، بيع جسده للسائحات مقابل المال، وخلال فصول الرواية يضعه الكاتب في مواجهات نفسية معقدة مع «الآخر»، مواجهات يدخلها البطل «علاء» مسلحاً بثقافته العربية، ووعيه بثقافة الآخر باختلافاتهما الكثيرة في قيمهما ومعاييرهما الجمالية، وعلى الرغم من ذلك يستطيع أن يقيم حواراً ثقافياً بينه وبين الآخر متكئاً على تراث ثري بالمتناقضات التي تدعو إلى الفضيلة في العلن وتمارس الرذيلة في الخفاء، ولكن البطل يستفيد من هذا التمايز الحضاري بين ثقافته العربية والثقافات الأخرى، بل يوظف هذا التباين لصالحه، إذ ينبغي أن تتفاعل تلك الثقافات المختلفة مع بعضها بعضا، لتنتج لنا في النهاية ما يعود على البشرية بالنفع والفائدة.
في أولى تجاربه مع «أديلا» الألمانية يقول: «تفتح الميني بار وتقترح شيئاً سريعاً، تضع أمامي الجبن بالخضروات، فأتذكر مقولة عنترة بن شداد: أغشى الوغى وأعف عند المغنم»، وحين تنتهي ليلتهما تترك له تحت وسادتها «ورقات مالية من فئة اليورو تعادل قيمتها بالجنيه المصري راتب عدة أشهر لشاب عصامي مكافح يعمل في شرم الشيخ من شروق الشمس حتى مغيبها».
وفي مونولوج نفسي يعبر علاء عن معاناته النفسية من ممارسة تلك المهنة: «ذهبت بكامل إرادتي إلى ما وراء الشمس، تذكرة ذهاب دون عودة، أحترف مهنة حساسة مخجلة، بمزيج من الإثارة والخوف، كأني أوقع عقداً مع الشيطان، سم عذب يسري في الشرايين».
إن مادية الغرب المحملة بحمولات انتهازية تواجه مثالية وروحانية الشرق من خلال صورتين ذاتيتين نموذجيتين، الأولى تمثل الاستغلال بعناصره المتباينة، والثانية تمثل الضعف الإنساني أمام سطوة المال، هي صورة من صور الصراع مع الغرب بمنتجاته وحمولاته الفكرية والثقافية ورأسماليته الحاكمة، فحين يلتقي البطل «علاء» «بيرلا» الفتاة العشرينية الإيطالية تخبره أن «النوم مع محترف جاء في البند الأخير من قائمتي لأكثر الأشياء جنوناً التي أحلم بتحقيقها قبل أن أموت»، نحن هنا إزاء ثقافة مادية بحتة قائمة على الملذات والاستمتاع بالحياة إلى أبعد مدى، ودون محاذير، ثقافة تدعي الحداثة وهي بعيدة كل البعد عن الدين والأخلاق، خلافاً للعقل العربي المشدود لماضيه بمنظومة القيم الأخلاقية والدينية، حتى وهو غارق في مستنقع الرذيلة، ففي تعليقه على كلامها بين نفسه يقول: «أديلا يا ابنة الغابات والمنطق النحاسي المبلل بالرذاذ، لا طاقة لي بأسئلتك المقبلة من نهر الدانوب، عندي ما يكفي من أسئلة قديمة علقها «رهين المحبسين» في رقبة الريح وحفرها على جدار الزمن:
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً
وبعثت أنت لقبضها ملكين
وزعمت أن لنا معاداً ثانياً
ما كان أغنانا عن الحالين»
إنها أسئلة تكشف حيرة الإنسان في سؤاله الدائم عن ماهية وجوده.
يؤكد محمد بركة في روايته أيضاً فكرة مهمة تتلخص في أن الحداثة الحقيقية في معناها ليست ثورة على التراث، بل هي لبنة جديدة في صرح التطور الإنساني، تضيف إلى التراث ولا تنتقص منه، فهي ليست على خلاف معه، ولا تقف منه موقف عداء، ومن هنا نلحظ في تلك الرواية أنها على الرغم من حداثة موضوعها ولغتها وأفكارها، إلا أن التراث العربي والإسلامي حاضر بقوة في متنها اللغوي والفكري، ستجد عنترة بن شداد وطرفة بن العبد وأبا العلاء المعري وأبا نواس ويزيد بن معاوية حاضرين عبر فصول الرواية، وكأن محمد بركة أراد لروايته أن تكون جديلة مدهشة من الحداثة والتراث، وكأنه يؤكد للمتلقي أهمية تمسكنا بجذورنا كي لا نفقد هويتنا.
كاتب مصري