
التفكير في الثقافة المغربية: النزيف الأبدي

صالح لبريني
(1)
أصبح التفكير في الثقافة أمراً ملحّا وضرورة وجودية ومجتمعية، بل يمكن عدّها حتمية تاريخية وحضارية نظرا للأدوار المهمة التي تقوم بها داخل نسق اجتماعيّ معيّن، فهي السبيل الأنجع لبناء مجتمع أكثر قدرة على الإجابة على أسئلة الماضي، وإشكالات الحاضر وانتظارات المستقبل، فالوعي بهذه الأمور يشرع الأفق على التعدّدية والاختلاف في الرؤى والتصورات؛ ويؤسس لمجتمع المعرفة. هذا الأخير لن يتحقق إلا بإشاعة الحرية والديمقراطية وترسيخ القيم الإنسانية المحفّزة على استعمال العقل، كآلية تسعف المجتمع على استشراف المستقبل، بعد الوعي بمفاصل ومتاهات التراث، والوقوف على ما يزخر به من تراكمات معرفية وإبداعية، لفهم الحاضر المتحوّل والمتغيّر، خصوصاً في ظل العولمة أوّلاً، وثانيّاً في سياقات حضارية تشهد ارتكاسة حقيقية في كلّ مجالات الحياة. فكيف يمكن للثقافة أن تستعيد وظائفها وجدواها وقيمتها في مغرب التحوّلات الكبرى والأسئلة الكليمة؟ وما طبيعة الثقافة المأمولة أمام التغول العولماتي والطفرة المعلوماتية الرهيبة؟ وهل المثقف المغربي قادرٌ على مواكبة هذه الانعطافات لترسيخ ثقافة تسهم في الارتقاء بالمشروع الديمقراطي؟
(2)
إن طرحنا لهذه الأسئلة لم يأت اعتباطا، وإنما نتاج ما يطال المفهوم من تغيّرٍ؛ وما يعرفه المجتمع المغربي خاصة والعالمي عامة من تراجعات خطيرة، تثير علامات استفهام، أمام الخراب المهيمن باسم القوة الغربية المتغطرسة، ذلك أن الثقافة تشكّل المضاد الحيوي لأمراض كل العصور التاريخية، فهي على الأقل تمثّل الملاذ للعقل لممارسة التفكير في الكائنات والوجود، وفيها يستطيع خرق السائد وتشييد ممكن التحديث والتجديد، كما أن الذات المثقفة تحقق وجودها وهويتها وأصالتها واستمراريتها عبْر الثقافة، باعتبارها الذاكرة والتاريخ، الهوية والكينونة، التلاقح المثمر بين الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك أن الأمم التي تجعل الثقافة أولوية من أولوياتها، وانشغالا يوميّا تنجح في الحفاظ على كيانها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وترتقي معارج التقدّم والتطوّر، وتحوّل المجتمع إلى خلايا فاعلة ومنتجة، وأكثر إسهاما في الدورة الحضارية وفعالية في السوق التكنولوجية، من هنا يبدو أن المثقفين المغاربة في حاجة اليوم إلى الانخراط الفعلي والمسؤول في ممارسة ثقافية جديرة ببناء مجتمع ديمقراطي، عقلاني تنويري، بعيدا عن الأيديولوجيات المستوردة، ولكن قريبا من نبض الواقع وارتجاجاته، بالإنصات العميق والمتأنّي لأسئلة تنمو وتتجذّر وتتشابك داخل نسق مجتمعي يطرح على المثقف المغربي اعتماد رؤية جديدة تتخلص من السرديات الكبرى والطوباوية المريضة، والاندماج في منظومة الثقافة الجديدة المتولّدة من رحم الإشكال الوجودي المتجلي في ثقافة قريبة من حاجيات الفرد وانتظاراته.
إنها ثقافة المغرب المنفتح شكلاً والمنغلق حقيقة، وحجتنا على ذلك أن العقل المغربي ما زال حبيس التقليد والجهل المركّب، والانغماس في التفاهات وسفاسف الأمور، ما عطّل مسيرة الوصول إلى حداثة حقيقية تغيّر السلوك ونمط التفكير، وجعل المثقف في غيبوبة عن الفعل الثقافي ونزوحه إلى العزلة، لكونه لم يفهم هذه التحولات المجتمعية من حافّة، ومن حافّة أخرى ظل ملتصقاً بأوهام قديمة متجاوزة لم تعد ذات نفع وجدوى، بينما المجتمع المغربي يشهد تبدّلات رهيبة في صمتٍ وبسرعة فائقة، دون نسيان ما أصاب الممارسة السياسية من أعطاب وشروخ، على أساس أن الثقافة في المغرب مقترنة أشدّ الاقتران بما هو سياسي أكثر ممّا هو ثقافي، إضافة إلى ما أصاب التعليم من أزمات كان تأثيرها أقوى على المجالين الثقافي والسياسي والحياة العامّة ، ويمكن القول إن من بين الأسباب الأخرى التي جعلت الممارسة الثقافية متخلّفة، انتفاء مشروع مجتمعي للدولة.
هذا الغياب للمثقف قوّض كلّ الرهانات المأمولة من الفعل الثقافي الذي لم يتم استثماره بالشكل السليم بقدر ما سقط في فخّ الانتظارية القاتلة؛ فتمّ تكبيل إرادته وقتل روح المبادرة والسعي إلى تحريك عجلة الثقافة المعطوبة بفعل عوامل معلومة تمت الإشارة إليها سَلَفاً، والآخر جليّ للفاعل الثقافي لا داعي لسرده ما دام نزيف تلك العوامل مستمراً، ويزداد جرحه غورا وإيلاماً.
(3)
ولا تثريب من إضاءة هذه الأعطاب المزمنة التي تعاني منها الثقافة المغربية، ونعتبره نوعا من التشخيص المنطقي والمعقول لتجاوز وتخطي المعيقات الذاتية والموضوعية، التي تحول دون أن يكون للممارسة الثقافية أثر ملموس على الإنسان والمجتمع، فمعرفة الداء تُيسّر إيجاد الدواء، لكي يشفى جسد الثقافة من استشراء الأسقام والعِلل، وبالتالي فالثقافة المتحرّرة من الاتباع والمنتصرة للإبداع طريق لترسيخ الديمقراطية الحقيقية، وبناء مجتمع مغربي مؤمن بالاختلاف، ونابذ للائتلاف، وهنا ينبغي عدم التخلّي عن هويتنا المغربية ذات الامتدادات العربية والأمازيغية والافريقية والإنسانية، بل يجب تطعيم الحاضر بالتراث المشرق الفعّال لاجتراح مسارٍ يُثوّر الثقافة ويطوّرها؛ ويسهم في الوعي بالإنسان المغربي واحتياجاته المعنوية وبالمجتمع وتحولاته، لأن الفعل الثقافي البعيد عن تلبية حاجات الفرد والمجتمع وانتظاراته فعل عاجزٌ عن إحداث ارتجاج في الأنساق المهيمنة، لهذا نحتاج إلى فعل ثقافي محمّل بالإشكالات المجتمعية والحضارية والإنسانية، ليس بالمفهوم الأيديولوجي المنمّط، وإنّما بالمفهوم المعقلن المتجدّد والموضوعي، حتى تتمكّن الممارسة الثقافية من بناء الشخصية المغربية الأصيلة، المنفتحة على مداها العصري والحضاري.
(4)
فالثقافة المأمولة ينبغي أن تكون منبثقة من نسغ السؤال الثقافي، وما يتطلبه واقع التحولات من أجوبة، ومن عصر تكنولوجيّ وما يستتبع ذلك من تغيّر في علاقة الإنسان بذاته وبمحيطه المحلي والكوني، الأمر الذي يفرض على المثقف ضرورة مسايرة هذا الواقع الجديد، بمقاربات تتفاعل فيها كل العلوم والأنساق والتصورات لتشكيل رؤية جامعة مانعة حتى تكون له الاستطاعة للتعبير عن الانتظارات، وهذا الأمر لن يكون إلا باعتماد سياسة تعليمية تتحرّر من مقررات متآكلة تكرّس التبعية والاجترار؛ وتشيع التنميط والاتكالية، وتهمّش النقد الفاعل والبناء، بغية خَلْق رأسمال رمزي يغلّب الإنتاجية على الاستهلاك، والعقلانية على التقليد، والإبداع الخلّاق على التبعية العمياء، دون إغفال مسؤولية الدولة التي تتحمل العبء الأكبر في هذا الوضع المأزوم، وذلك بإعادة النظر في الثقافة كمورد معنوي مهم، وتشجيع الطاقات المنتجة والفعّالة، وخلق حركية ثقافية وطنية بعيدا عن البهرجة والفولكلورية الخادعة، فما يجري مثلاً من معارض جهوية لا صلة لها بالثقافة المبتغاة، حيث النمطية والمشهدية في التنظيم هي السارية المفعول في مجمل المعارض، ذلك أن الممارسة الثقافية الحقيقية مغيّبة.
لهذا نحتاج إلى بذل الجهد لتكريس ثقافة العمق والأصالة، ثقافة تؤمن بالعقل لا العاطفة، ثقافة تقود الفرد والمجتمع إلى أن يكونا أكثر دمقرطة وفاعلية. ثم لا بد من فتح المجال لهيئات المجتمع المدني ـ رغم تحفظي على التسمية – والقنوات الإعلامية بالإسهام الجاد في تحريك المشهد الإعلامي الثقافي، حتى يكون قاطرة لبلوغ مجتمع الديمقراطية.
(5)
إن نزيف الثقافة المغربية علّته تكمن في غياب الديمقراطية، فالإقصاء وهيمنة القبائل الثقافية والوصولية الثقافية، من بين الأسباب الكامنة في تعطيل الحياة الثقافية وفشل الفاعل الثقافي في أداء مهمّته، في ظلّ انتشار الأمية بتجلياتها القرائية والكتابية والمعرفية والتقنية، وتغييب ما هو ثقافي من لدن الدولة بمؤسساتها والمؤسسات الحزبية، ذلك أن معاقل الثقافة تبقى مُشرَعة على الظلام والفراغ ، هذا الواقع موجود ومؤلم في الآن ذاته، بل إنّ جرح الثقافة يزداد غوراً وعمقاً جراء الاعتقاد الخاطئ لمفهوم المثقف، مما جعله يسقط في فخّ النخبوية، متوهّماً أنه المؤتمن على القيم والحرية والهوية، وحارس المدينة والتنوير وغيرها، وهو ادّعاءٌ يفضح حقيقته المتقنعة بالدفاع عن المواضعات الاجتماعية والمبادئ السياسية والأفكار العظيمة.
إن أزمة الثقافة في المغرب تعود إلى زمرة من العوامل الذاتية والموضوعية، وإلى الفهم الخاطئ للثقافة والمثقف، إضافة إلى أوهام المثقف الذي يعتقد أنه نخبة المجتمع، والانغماس في التمثيل الهوياتي باعتباره سادنه وظله على الأرض وأنّه العقلاني الذي بإمكانه إنقاذ الواقع من الانهيار القيمي (نسبة إلى القيم) والتخلّف الحضاري. هذه الأوهام زادت المثقف من خلق مسافة وهمية بينه وبين الواقع، وهو في الأصل لا وجود له إلا في عقله ووجدانه، ما دام يعيد تكرار المقولات المستوردة واجترارها دون تنعّم وتبصّر، ليعثر عليه خارج المجتمع وأسئلته وتغيّراته، بل يمكن القول إنّه خارج السياق.
(6)
أعتقد، في ظلّ هذا الوضع، أن الثقافة في المغرب وممارستها تحتاج إلى إعادة النظر، فالمثقف المغربي من الحتمي أن يكون أكثر التحاماً بأسئلة العصر وإشكالاته وقضاياه الشائكة؛ عبْر القراءة المدركة والوعي بمجريات التحوّلات التي تمس بنية المجتمع ومواضعاته، مع الإشارة إلى ما خلّفته الوسائط التكنولوجية من فجوات وشروخ أثّرت بشكل صارخٍ على علاقة المثقف بالواقع، ليجد نفسه منفيّاً في داخله ومغترباً عن محيطه، وسجين أفكار وتصورات ورؤى بالية. لهذا فالمطلوب هو إعادة التفكير في الثقافة في المغرب برؤية جديدة ومداخل أكثر جرأة، بعيداً عن المؤسسات الثقافية التقليدية الشائخة؛ بداية بالعمل على تصفية المناخ الثقافي من الشوائب العالقة في الممارسة الثقافية، لأن مياها كثيرة جرت تحت جسر الفعل الثقافي، تفرض اليوم تجديد المجتمع المغربي بأفكار ومفاهيم جديدة، تساير المتغيّرات وتنخرط في معمعانها حتى يستعيد المثقف دوره في ممارسة ثقافية منتجة، ذات فاعلية تفضي إلى تغيير مسالك التفكير وآلياته، لتناول الإشكاليات والقضايا ببصيرة تنظر إلى الحاضر برؤية مستقبلية، ونهاية بالإسهام في دورة تنمية الرأسمال الرمزي إبداعاً وفكراً كفيلاً بضخّ روح الحياة من جديد في سيرورة الفعل الثقافي والفاعل الثقافي.
(7)
هكذا فالمثقف المغربي ما زال حبيس زمن ولى، وطروحاتٍ عفا عليها الزمان، بل غدت غير منطقية في سياقات جديدة جوهرها الانهيار الكلي للمنظومات الفكرية والسياسية، تفرض عليه تغيير بوصلة انشغاله بما هو ذاتي مرضي إلى ما له ارتباط بهذه السياقات، التي أحدثت شروخاً في الجسد الثقافي النّازف، وعملت على توسيع الفجوات. ولتجاوز هذه الأعطاب لا بد من نهج جديد لتفعيل الممارسة الثقافية، والسعي إلى امتلاك الوعي بالذات والعالَم، بالكينونة والوجود، وباللامعنى لسان حال الثقافة في المغرب.
وعندما أتوجه بالنقد إلى المثقف المغربي، فالغاية منه الكشف عن مكامن الخلل والعمل على إصلاحها وترميم أعطابها لتجاوز كل المعيقات؛ ليواصل المثقف وظيفته المثلى في ابتداع الأفكار؛ وإنتاج المعنى وملامسة الحقائق، وفق قراءة عميقة تعيد الحياة للثقافة من جديد بعد هذا الموات المفروض قهراً وقسراً.
(8)
وفي ضوء ما سبق فإن الثقافة في المغرب أصيبت بالسكتة الثقافية، ولم يعد المثقف مهتماً بإنتاج الأفكار والتصورات، وفاعلا مؤثّرا في منظومة المجتمع ومحطّماً لمواضعاته، ومشاكساً للدّولة مستفّزاً ومثيراً، ومساهما في تقويم اعوجاجها، بقدر ما تحوّل إلى حمْلٍ وديعٍ مهادنٍ ومكرّسٍ لمنظورها للثقافة، ساهراً على ترسيخه بالقوة والفعل، مما كان له تأثيرٌ على سيرورة الثقافة وصيرورتها، من دون إغفال تلويث المناخ الثقافي بأدعياء الثقافة، ما انعكس على صورة المثقف المغربي باهتزازها لدى المثقف نفسه والرأي العام، لتعرف الممارسة الثقافية نوعا من الترهّل والتراجع والفتور والموت.
كاتب مغربي