ثقافة وفنون

طفولة بين ضفتين: تمثيلات الفضاء الثالث في قلب السيرة الذاتية

طفولة بين ضفتين: تمثيلات الفضاء الثالث في قلب السيرة الذاتية

عبداللطيف الوراري

ثمة أعمالٌ أساسيةٌ في تاريخ ثقافتنا الحديثة لا تموت، فهي ما فتئت تخاطب وجداننا وتسائل وضعنا في كل مرة، إما بسبب قوة الروح التجديدية التي تَشبعتْ بها، أو بسبب مساءلتها المستمرة للمأزق الأخلاقي الذي نحياه في عصرنا؛ ولهذا تظل أعمالا راهنية، وذات طبيعة استراتيجية. وفي هذا السياق، نعود مرة ثانية إلى السيرة الذاتية لعبد المجيد بن جلون «في الطفولة» 1957، ونعاود النظر إليها من زاوية أخرى.
لا يتعلق محكي السيرة الذاتية، ومحكي الطفولة على نحو خاص، بولادة الطفل وصرخته الأولى في الحياة فقط، ولا بموت الأم الذي أثر في نفسيته وقذف بكينونته الأولى قبل الوعي بها في مناخ الحزن والحيرة في مانشستر، بل كان يتعلق ـ في الصميم- بواقع الاغتراب والضياع والشعور بالاختلاف والمنافرة داخل الفضاء الثالث، بتعبير هومي باباHomi K. Bhabha . لهذا كان أسلوب هذه السيرة ينشد إلى بنية عميقة تنظم تمظهراته السردية، إذ تشتبك على مضمارها الدلالي والرمزي ثقافتان متباينتان، وأسلوبان في الكتابة: فولكلوري- إثنوغرافي وآخر تعبيري- رومانسي، وكل منهما يواجه الآخر ويمتحن تجربة الحدود في نفس السارد الطفل ومُخيلته في آن، قياسا إلى الواقع البشري الذي كان يحتشد باختلاطات الحياة اليومية ورطاناتها بما يشبه دُوارا واجهه هذا الطفل بين ضفتين. وفي هذا المعنى، ترجم فرانسيس غوين هذه السيرة تحت عنوان: «طفولة بين ضفتين» (Enfance entre deux rives)؛ لما يوحي به من ترحال دائم واغتراب ثقافي من مكان إلى آخر.

بين شارعين.. وضفتين

من أجل فهم العلاقات والقيم المادية في عالم يعج بالاختلافات النوعية، كان الطفل يستعين بآلية التعرف والتحديد، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بهذا الفضاء الثالث المتداعي بين مانشستر (إنكلترا) وفاس (المغرب)؛ وهذا الفضاء ظل يتسم بالهجنة والاختلاف الثقافي وازدواجية الهوية حتى بعد رجوعه إلى بلده الأصلي. فالسارد الطفل تَعرف في بيت مانشستر إلى «كثير من صور الحياة» وطبائع المراكشيين وقيمهم (رفع الأصوات عند الحديث، غياب الذوق والأناقة، عزة النفس، حب الخير والإقبال على الاستمتاع بالحياة..)، وفي بيت آل باترنوس تعرف إلى أفراده مع اختلاف سلوكهم وأمزجتهم وطبائعهم وأحاديثهم عن تقدم الحضارة، ومع ميللي تعرف إلى الحياة واتسع أفق وجوده وهو يرتاد دور السينما والمسرح والحدائق العامة، وأخذ يتشرب قيم المجتمع ومثله العليا وثقافته العصرية (حب الاستطلاع والاكتشاف، المغامرة، القدرة على السيطرة..). بيد أن الشارع الفاصل بين بيتهم وبيت آل باترنوس، لم يعد هو الفضاء الثالث الذي يعبره بسرعة، بل امتد هذا الأخير ليشمل مجالات أرحب وأعقد تمس كينونة الطفل وتخاطب وجدانه وفكره، وفي أثره بدأت هوية الذات تنشأ من تلقاء نفسها؛ وذلك منذ أن التحق بالمدرسة وشعر بأنه مختلفٌ وغريب عن أقرانه في الجنسية والدين، أو حين اخترق حدود «مملكة الأساطير والأوهام» وهو يزور بلده الأصلي الذي لم يكن يعرف عنه شيئا إلا ما كانت تحكيه له أُمه من قصص أقرب إلى «الخرافات»، فيكتشف طبيعته وألوانه وشمسه ويتعرف على عمرانه وطعامه ويُعجب بحياة الناس فيه.
وإذا كان شعور الطفل بكونه غريبا زاد أكثر لدرجة الشعور بالرعب والاضطهاد، فإن الصورة التي كَونها عن البلد، من خلال ما كان يُروى له أو يسمعه، أخذت تتغير بسبب ما رآه بأم عينيه، وما وقف عليه من الحقائق؛ وهذا الأمر شَكل بداية تعلق الطفل بوطنه المغرب: «بدا لي أن العالم الحي هو مراكش، وأن مراكش هي العالم الحي». وحين عاد إلى مانشستر نقل هذه الصورة لأطفال الإنكليز، وأوضح لهم أن المغرب ليست من «بلاد الزنوج»، واختلاف أهله ليس على أساس اللون أو الأشكال، بل على أساس الثقافة التي يحيونها في حياتهم «على طريقة غريبة»: اختلاف الزي، الإقبال على الحياة، طريقة إقامة العرس، نظام التعليم في المسجد، نمط العيش، الاغتسال في الحمام، كثرة الكلام، الأسواق، حلق الرأس، حجاب المرأة، الأمية، الجنائز، العمران، اللغة، إلخ.
لم يكن يحكي أمامهم عن «بلاد غربية» وحسب، بل كان يدافع عن هُويته ويريد أن يُحررها من شعور الاضطهاد الذي يطاردها، وقد يكون محكي «منظف المداخن» الذي وجد الطفل نفسه أمامه وجها لوجه وارتعب لوجوده، كناية عن استعداد الطفل للعثور على هُويته وإزاحة ما لحق بها من تحديات وطبقات سوء الفهم، ومن ارتياب داخلي، وهو ما يعكس ـ في نظري- أن سياسة الذات وبناء هُويتها كسيرورة خطابية، بدأت تشتغل من هذه اللحظة، وتنتظمها جملةٌ من الميكانيزمات الداخلية التي تتحفز دائما لما يحدث حولها من وقائع ومعطيات جديدة، ولكنها لا تنهض بوظيفتها البنائية، إلا من خلال التوترات الحادة التي ترصدها وتستضمرها، أو من خلال التجارب التي تصطدم بها وتحاول أن تجد لها فهما مُوازيا وآنيا. وفي هذا السياق، يُمثل قرار العودة النهائية إلى الوطن، بعد ثماني سنوات من الإقامة المتأرجحة في مانشستر، ذروة التوتر الذي شعر الطفل معه بتصدعٍ يرتج داخله: «حِسك في هذه البلاد طليقٌ ومُرْهفٌ ومستمتعٌ ولكن روحك مُقيدة، ولكن كيف كان يمكن أن أعرف هذا في تلك الأيام من طفولتي الذاهبة؟».
فالإقامة المتوترة والمشوبة بالحيرة والرهبة والضياع التي شَبهها باللهب الذي يعلق بروحه ويعصرها، صارت تضايقه وتُملي على الذات منطق التفكير في المصير بحثا عن الخلاص، لكن هذا التفكير المُبكر، مع ذلك، كان يصدر عن شعور سليم وإحساس فطري، وكان في منأى عن «داء التعصب»، وهو ما أتاح له حين عودته إلى المغرب وانتسابه إلى المجتمع المغربي المحافظ، أن يدرك طبيعة التمايزات في الفضاء الثقافي، وأن يندمج في الحياة الجديدة، ويستمتع باللعب مع أقرانه، بعد تعلم لغة التخاطب ودخوله المدرسة، ولم يكن ذلك يخلو من سخرية لاذعة، إزاء ما يحدث داخل هذا الفضاء من اختلالات تتعلق بسوء التعليم وغلظة المعلمين وتقهقر طرق تدريسهم وعلاقاتهم غير التربوية بالطلبة، وغير ذلك.

من الدوار إلى الانتماء

يمكن أن نستخلص من أحداث السيرة صورةَ ذاتٍ مُعلقةٍ في «اللامكان»؛ سواء داخل الفضاء الثالث الذي يتسم بالغرابة والازدواجية الثقافية، أو بعد قرار العودة إلى البلد الأصلي، حين شعر الطفل بـ«الدوار» من مفارقته مانشستر، أو من الحوادث الانقلابية التي عاركها وأثرتْ في نفسيته ومزاجه؛ بما في ذلك موت أخته، الذي مثل بالنسبة إليه «فاصلا بين عهدين»، وفشله في المدرسة الفرنسية، إلى أن تولدتْ مقاومة داخلية جرى تصريفها في رؤية ساخرة ونقدية لظواهر المجتمع الذكوري وقيمه المتواضع عليها. لكن منذ التحاقه بجامعة القرويين عام 1934، ستظهر إلى العلن صورةٌ لذات بديلة؛ ذات مرجعية بدأت ترتبط بالجذور، ومنتمية إلى أرض وعائلة ومجتمع له تقاليده ومواضعاته القيمية، وإلى زمرة من الأدباء أحيوا في نفسه بذرة العمل الوطني، ثُم إلى أُمة عريقة في التاريخ كانت تتلمسُ طريقها إلى الحرية والاستقلال.
بعد تردده على هذه الجامعة التي افتتن بهندستها المعمارية العجيبة ودورها التاريخي العظيم، ورغم سخريته اللاذعة من طرق تصريف دروسها، فُتِحتْ أمام الطفل فرصة تاريخية عظيمة وطُرحت عليه أسئلة مصيرية: «لم يكن لي بد من أن أقتحم هذه البوابة الضخمة لأقلب بذلك ـ دون أن أدرك خطورة العمل الذي أقوم به – صفحة جديدة في حياتي لا تمت بسبب ما إلى الماضي». صار لهذه الجامعة تأثيرٌ فعـالٌ وحاسمٌ على كيانه المعنوي، وانقلبت المثل العليا التي كان يؤمن بها (القوة الجسمية، اللامبالاة، المرح والقهقهة..) رأسا على عقب، وحلتْ محلها قيمٌ جديدةٌ مناقضة لما سبقها، تُكرس في نفسه قيم الوقار والدعة والتفكر والأناة والهمس والتجهم، وأخذ يتوصل إلى «معرفة الحقائق» بنفسه ويبني عليها أفقا من الفهم والوعي والتحليل والاستنتاج بشكل ثَمن سياسات الذات، ثُم حدث الارتباط بالحركة الوطنية والشغف بالأدب، فأعطى لهذه السياسات معنى وفاعلية أكبر على نحو حرر الذات وأشعرها بالزهو والفخار حينا، والغرور حينا آخر، ولكن هذا الغرور – كما يقول- «أيقظ في نفوسنا الإيمان بالذات».
فإذا كانت بعض الدروس في القرويين وسعتْ مداركه وفتحت عينيه على أفق آخر، إلا أن الدرس الذي استأثر باهتمامه ووقع في وجدانه هو درس الوطنية، منذ أن سمع الزعيم علال الفاسي يخاطب في الناس ويستنهض همم الشباب ضد الاستعمار الفرنسي، فتوطدت صلاته بجماعة من الأدباء الشباب (عبد الكريم بن ثابت، أحمد بن المليح، عبد الكريم غلاب..) الذين زاوجوا بين العمل الوطني والأدب ودخل معهم السجن بعد احتجاجهم على حاكم المدينة، وأدرك أن الأدب المغربي جزء من الثقافة العربية في المشرق، وأن هناك «مسلمين آخرين غير المغاربة». كما قاده تأثره بالشاعر المصري أحمد شوقي الذي سمع باسمه بعد المهرجان التأبيني الذي أقامه رجال الحركة الوطنية لأحمد شوقي في فاس عام 1932، إلى نظم الشعر وإلى دراسة الأدب العربي، الذي أخذ يتعمق فيه ويسهر الليالي من أجله لسد العجز وتحقيق الرغبة في الفهم، وازدياد الشغف به عزاء وسلوى: «وفي هذه الغرفة بدأ رأسي يضيق بالتطلع والنزوع، على الرغم من كل الإمكانيات الضيقة التي كانت تحاصرني، فقد تعرفت إلى ألوان من الحياة في الأدب العربي، وتعرفت إلى ألوان من الحياة المعاصرة، فيما كنتُ أقرأ المجلات المصرية القليلة، التي كانت تصل إلى المدينة في ذلك الحين، وإذا بي أحلم بالطيران ورجلاي ترسفان في أغلال ثقيلة». ونتيجة هذا الشعور الذي ملأ عليه نفسه، بدأ ينشر مقالات وقصائد في مختلف الصحف والمجلات المصرية والمغربية (الرسالة، الثقافة المصرية، جريدة الأطلس..)، بما في ذلك مقالته عن «الحياة الأدبية في المغرب» التي أراد من خلالها أن يتواصل مع الوسط الثقافي المشرقي وأن يلقي الضوء على أدب يجهلونه.
كانت باكورة التجربة بالنسبة إليه امتحانا لمدى التزامه الشخصي وصدق إيمانه بالمشروع الذي انخرط فيه، فقرر أن يواصل الكتابة ويندمج في المعركة الأدبية التي لا تقل جدواها عن المعركة الوطنية التي خاضها لفضح خطط «الإرهاب الاستعماري» و«تسفيه أحلام الاستعمار»، مع أدباء ومثقفين مناضلين وعضويين كانوا مقتنعين برسالتهم في التعبير عن مأساة وطن في صراعه مع قوة إمبريالية تريد تغريبه عن جذوره وإتلاف ذاكرته الحضارية؛ إذ جعلوا من مشاريعهم الكتابية مستندات تاريخية وأخلاقية لا تفصل بين ما هو أدبي ووطني، ومعركة الفعل الثقافي وحركة التحرير الجماعي، مثلما جعلوا منها – بالنتيجة- شهادات على حضارة مُتأصلة في التاريخ كانت تواجه أعتى الأسلحة لاستلاب قيمها الأصلية وإحداث شرخ بينها وبين الأجيال الجديدة.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب