ثقافة وفنون

«هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم» قصيدة الشاعر اللبناني بول شاوول: أطفال غزّة بأنيابِ وحوشٍ تطلعُ من التوراة

«هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم» قصيدة الشاعر اللبناني بول شاوول: أطفال غزّة بأنيابِ وحوشٍ تطلعُ من التوراة

المثنى الشيخ عطية

يميّز القراء، وإن بدرجاتٍ يحدّدُ قدْرُ ثقافتهم الشعرية ارتفاعَها، قصائدَ النثر المشغولةِ بحرفية المعلّمين من بين ركامِ قصائد النثر التي تعجّ بها مواقع التواصل والصحف والكتب المنشورة، بمختلف التساؤلات، إنْ حول نشرها أو حول كونها مسخاً للقصائد المترجمة. ذلك أنّ قصيدة النثر الحقيقية المؤثّرة تتفاعل بنسيجها المشبوك شكلاً ومضموناً مع جدليّة نسيج داخل الإنسان نفسه، والتي تتضمن تركيب البنية الإنسانية المشتركة بين البشر، وإيقاع الداخل الإنساني وأنساقِه المركّبة المنسوجة بأصابع الكون، ومن دون تساؤل عن انجذاب القارئ بالنسق الشعري الثلاثي في الإيقاع على سبيل المثال.
وكما لو انفتحتْ الشاشةُ أمامنا في صالة سينما، بعد سيادة الظلام الذي يقود عيوننا قسراً إلى الشاشة؛ يلمع الصوتُ مشاهدَ تُضيئُها بتنقُّلٍ بُقعُ ضوءٍ تلتمع وتنطفئ، على أجسادٍ صغيرةٍ لا تكبرُ إذْ هي «تكبر خلف موتها»، فنعرف برهبة غموض هذه الجملة والسكونِ الذي يلفّ هذه الأجساد، أنها ميّتةٌ. حيث: «ولا سنواتَ تُحصى/ ولا أسماء/ ولا لحظات تروى/ لإرثٍ أو لمقامٍ/ عدوى الورد ولا أجسامهم/ عدوى العطر عليهم/ ولا نسمةَ حولهم/ ولا لون لعيونهم الأخيرة/ هؤلاء الذين يموتون خلف أمواتهم/ (أطفال غزة)». ويحلّ الظلام.
هكذا، يعيدُ تحديدُ الموتى بين قوسين في نهاية مقطعٍ فاتحٍ بقصيدة نثرٍ، إلى مخيّلاتنا، بفعل الظلام الذي أوقف ضربات الضوء بهذا التحديد ولَفَّنا، أجساداً صغيرةً تخرجُ، أو لا تخرج خِرَقاً حتّى، من تحت الأنقاض، وأجساداً حيّةً تَرفعُ أكفَّ استنكارٍ، توسّلٍ، شكوى، أو ربّما علاماتِ نصرٍ فوق الأنقاض، مثلما يعيد إلينا هؤلاء الموتى المحدَّدون خوفَنا من أن هذه الأجساد الصغيرة ستسكن تحت أنقاض أخرى بعد قليل حيث تتوالى المجزرة.
وكما لو انفتحت الشاشةُ على المقطع الثاني الذي يلي الأول بعد ثلاث نقاطٍ فاصلةٍ، لترسم بقعُ الضوءِ على أجساد الأطفال الموتى معاني وجودِهم وغيابهم من سكونهم؛ بقصدية عدم إراحتنا من رؤى إطلالتنا الأولى، يستمرّ مقطع التحسّر، بجملةٍ من ذاتِ إيقاع المقطع الأول الهادئ: «ولا تلَفُّتَ رحيماً ولا عُصَصَ لتُشرِقَ»؛ يضعُها الشاعر اللبناني بول شاوول جسراً واصلاً بمقطعه الثاني المختلف المؤتلف في الإيقاع الهادئ، ويفتح بها في قصيدته الطويلة المنشورة كتاباً تحت عنوان: «هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم»، عالَمَ حِرَفيته كمُعلّم في إبداع قصيدة النثر، حين نكمل القراءة التي مسحها الضوء سابقاً، بفعل المضارع الآن: «ينضمّون في سُباتِهم الخفيف/ (خفّةَ أبدانهم)/ بلا رحمةٍ ولا عُللٍ ولا أصابعَ/ إلى أوقاتٍ ولا يرسمونها/ إلى أمكنةٍ مبهَمةٍ بين السماء والأرض».
وكما لو تورّطنا بالإكمال، وسنفعل ذلك، بتواردِ جملِ خلق الفراغ بلازمة كلمة «لا» المسبوقة بالواو أو الباء للتعبير عن خلاء أيّ مظهر يُشعر بالحياة: «بلا ظلالٍ لتعْلَق على أجفانهم/ ولا قسماتٍ/»، حيث: «للموت ملمحُ طفلٍ واحدٍ/ في ميتات كثرى واحدةٍ/ للموتِ طرقٌ لا تَعبُر الليلَ/ إلا بأخفافٍ غامضةٍ.»… «خلف أيامِهم المسبوقة/ ولا سابق إلا ما يسرده/ الصمت على جلودهم/»….
كما لو صرخةٌ تشق الصمت، أو رشقةُ ضوءٍ هائلةٌ على وجوهِ مَن في الصالة مجمّدين بالسكون، أو كتابٌ مقدّسٌ لا بدّ من فتحه، وينفتح فماً بأنيابٍ مشهَرةٍ، أو صنجٌ يشقّ الأسماع بجملةٍ لها فمٌ فاغر للابتلاع، بعد الصمت؛ تضربنا الجملةُ الفاغرة فَمَها: «وحوشٌ تطلعُ من التوراة».

ثنائية بناء القصيدة:

بنسق ثلاثيٍّ في إيراد الوحوش، يمهّد لمعرفتنا ببناء القصيدة على ثنائية تضاد أطفال غزة ووحوش التوراة، يفتح شاوول لقرّاء عام 2009، (حيث كتبَ القصيدة، لتصوير وكشف عمق وتاريخية وسيكولوجية ما ارتكبت إسرائيل من مجازر بأطفال غزة)، مخاوفهم من تكرار مجازر الأطفال، مثلما يفتحُ لقراء أو شهود تكرار المجازر وتحوّلها إلى «إبادة جماعية»، في حصار غزة وتفجيرها عام 2023، (حيث نُشرت القصيدة كتاباً)، كهوفَ وإيديولوجيا وتخاريف جذور الإبادة. هذه التي استطاعت جنوب أفريقيا بناء دعوتها بمحاكمة رئيس وزراء الإبادة ناتنياهو عليها، بإثبات استناده في خطابه لما سيفعل بالفلسطينيين وفق وصايا إلهه له بارتكابها، على سفر صموئيل في التوراة، المعتبر تطهيراً عرقياً لما نصّ به؛ وعلى سفر التثنية، في دعوةٍ لاستئصال العماليق الذين كانوا يسكنون جنوب أرض كنعان وصحراء النقب وشمالي سيناء وتعتبرهم إسرائيل أجداد الفلسطينيين والعرب.
وفي هذه الثنائية يستهلّ شاوول كشفَه لجذور الوحوش المعدنية التي تنهش مستقبل أطفال غزة، بتضادها مع هؤلاء الأطفال بعد جملته الصاعقة عنها، بوصفها: «وحوش تطلع من التوراة/ جفّت سَدوم في محاجرهم/ نزّت أوبئةً من مسامِهم/ وحوش تطلع من التوراة/ كأن تخرج بلا صبحٍ أفاعٍ ألفيةٌ/ بأجراس مجلجلةٍ وبألسنةٍ/ وبفجورِ من غادر الأبديّة بلا رجعةٍ/ وحوش تطلع من التوراة/ ولا وجوه سوى ما يصنعه المعدن/ سوى ما يَسْبيه النصلُ/ سوى ما تُخليه المزامير على قلوبهم الداكنة». مع ملاحظة البناء هنا وفي معظم الأبيات على النسق الثلاثي، في تركيب الجمل.
ويفصّل شاوول ثنائيته في قصيدة موتاه، ببنية تتكوّن من أربعة عشر مقطعاً، تجري عشرةٌ منها بأسلوب ترتيب السطر، القصير في غالبيتها، بتواتر للأطفال والوحوش، بينما يستقر المقطعان الثامن والتاسع بأسلوب الكتلة الخالصة الثابتة، ويشملان الأطفال؛ وينهج المقطعان العاشر والحادي عشر أسلوب مزاوجة الكتلة للأطفال، والسطر للوحوش.
ويمكن للقارئ تفسير هذا التخصيص، سواء بقصدية الشاعر أو عدمها لذلك، بثبات أهل الأرض وخفّة العابرين، إذ يصف شاوول خلال القصيدةِ الثباتَ والعبور، بتحوّل الأرض إلى أن تشبه الأطفال في أسلوب الكتلة الثابتة: «كأنْ عندما تجاوزَ الأطفال كَّل حدودٍ (مقطوعة) باتوا بلا حدود ولا أسلاك ولا جدران ولا أسوار ولا تقطيع أوصالٍ، وباتت الأرض بوعورتها ومشقّاتها، وأحمالها وجغرافيتها بلا حدودٍ تُذْكَر صارت الأرض تشبههم فجأة صارت الأرض بلا حدودٍ سوى ما تركه الطفل بينه وبين طفل آخر، بينه وبين شهيد آخر… بين أمواتٍ رحلوا وأمواتٍ قادمين».
في مقابل خفة الوحوش العابرين، في أسلوب السطر: «ذلك أن الوحوش الساقطة من الكتب الألفية،/ كائنات الكلام الحجري، والنفوس الحجرية، والأحجام الحجريةِ/.

«يطأون أرضاً ليست أرضَهم
يتنفسّون هواءً ليس هواءَهم
يشربون مياهاً ليست مياهَهم
يسكنون منازلَ ليست منازلَهم».

جسورٌ تشابك جسد القصيدة:

في مفصلته لنصّ القصيدة، يضع شاوول ثلاث نقاطٍ لا تكون فواصل بين المقاطع بقدر ما تكون جسوراً بينها، ويلعب الإيقاع الذي تتراكب فيه الجملُ دورَ الناظم للقصيدة من بدايتها إلى نهايتها التي يعيد فيها الجزءُ الأول من المقطع الأخير الخاتِمِ مقطعَ القصيدة الأول في تدوير النهاية على البداية.
وفي كل جسوره المقامة بين الجمل والمقاطع والأنساق والإيقاعات يُحيي شاوول جريان قصيدته باللوازم التي تتكرر لتمدّ القصيدة بالجريان من دون عوائق، ومن دون علامة الفاصلة تقريباً: ويمكن بلورة هذه اللوازم بـ:
1: الجملتان الرئيسيتان اللتان تشكلان الثنائية التي بنيت عليها القصيدة:
ـــ لازمة «هؤلاء الذين»: يموتون خلف ما يشمل الحياة والموت ومعاني الوجود والعدم في الزمن، وتعبّر عن الأطفال/ (أطفال غزة) الذين ماتوا ويموتون، شهداءَ لا يُعرف إلى أية سماءٍ أو أرضٍ يمضون ويقيمون، غير قلوب ذويهم وشرايين بلادهم، مع تزويد هذه اللازمة بمواصفات وحركة «هؤلاء الأطفال الذين: «يكبرون خلف موتهم». «الذين لم يكبروا/ كما يكتملُ بدرٌ أو تعتدلُ ظهيرةٌ/ أو يرمشُ مغيبٌ». «الذين لن يكبروا». إذ «ضاق الفضاء بكواكبهم المكسورة». «الذين لم يعرفوا أنهم/ لم يكبروا أو كبروا أو سيكبرون/». «الذين ماتوا قبل أعمارهم/ كأنْ لم يتوسّدوا حضناً أو يُفطموا/ على ماء أو فاكهةٍ أو رغيفٍ/ كأنْ من بقياهم أن تصير الشجرة إلى الشجرة/ والزيتونة إلى نهرٍ والنهر إلى أرضٍ.». «الذين يموتون ولا يعرفون أجسامهم/ ولا ذكرى، ولا بلل، ولا غضاضة، ولا/ فصول ولا أنساق ولا إشفاق/ يغمضون عيونهم قبل العاصفة السوداء.». «الذين يموتون خلف جراحهم ولا جروح تروى…/ كأن يقتلَ الأطفالَ سِفرٌ أو كلامٌ/ أو ضربةٌ تصيبهم في ظهيرتهم المنفيّة/ أو في فجرهم المستحيل/ أو في أقمارهم المقسومة/ بقوّة التخريف وجنون الآلهة المعدنية.». «الذين لم يكن لهم أن ينسوا»، (أطفال غزة)/ عبروا طفولاتهم كأن تعبر الضفةُ الضفةَ والنهرُ النهرَ، والحياةُ الموتَ، بلا قارب ولا جسر ولا جناح.». هؤلاء الأطفال ومن شدة ما اختزنوا الأمكنة المختارة… فاضت الأمكنة المختارة… فاضت الأمكنة بعدهم على الأمكنة كحدود سائبة… وفلسطين كلها.». الأطفال الذين يحوّلون من خلّفوهم وراءهم إلى أطفال.». هؤلاء الذين يكبرون خلف غياباتهم/ ثم/ بقفزة واحدةٍ يتلاشون كالنيازك/ في ذلك الفضاء المعدني الغامض/ على/ تلك الأرض التي تخلّت عنها الآلهة».
ـــ لازمة «وحوش تطلع من التوراة»: المعبّرة عن الذين يرتكبون مجزرة قتل هؤلاء الأطفال، مع تزويدها بالمواصفات التي تعبّر عنها، من لوثات الإيديولوجيا النازية، والتخريف، إلى الأيدي الملوثة بدم الأطفال، إلى لصوص الأرض، إلى كونهم الماضي بحملة سكاكين الذبح وكونهم الحاضر بأسلحة المعدن: «وحوشٌ تطلع من التوراة»، «قطعت الفضاء الذي يتّسع/ لأجسامهم/ قصّت الضوء الذي يفتح عيونَهم/ فضّت سنواتِهم القادمة ولا قدوم/ كأن ترمى أسمال فارغةٌ.». وحوش «تفلت موتاها عهودها القديمة». «كسور النبوءات العاتية/ كسور الآلهة المفلتة بلا أرواح». «عصائبهم تعاويذ للذبح/ نجمتُهم تُشرّح الهواء بنصال مسمومةٍ.». «وردهم يفحّم (سدوماً) على جباههم/ أشجارهم تيبس قبل قاماتهم.». «ذلك أن الوحوش الطالعة من التوراة إلى كل هاويةٍ/ كأنْ قفزت من الأرحام إلى القتل.». «وحوش الأمس،/ وحوش اليوم،/ وحوش الغد».
2: كلماتُ ملْء فراغات الجملتين: «كأنْ»، التي تفيد وتتجاوز التشبيه من حيث تفسيرها ما يخص نفسها في مواضع. وكلمتي: «وذلك أنّ» التي تفسّر المتكلَّم عنه والحدث، باستخدام التفسير كرافعات إغناء في قصيدة النثر، لا كمثبطّات للشعر الذي عليه ألّا يفسّر بقدْر ما يُؤثّر. وكلمة «ولا» التي تفتح الفراغ المعبِّرَ عن الموت بكل أشكال خلاء الحياة.
في تشابك اللوازم، وتبادل أدوار الكلام عن الأطفال والوحوش، ينتهي شاوول إلى مبادلة أدوار الموت والحياة بينهما، بحياة الأطفال في بلادهم الحاضنة، وإثارة تساؤلاته عن الوحوش: «كيف تكون آلهةً مختارةً من إلهٍ مختارٍ/ تنشر برياحها القديمة الغاضبة (غضب الآلهة) ما يملأ الفضاء/ أوبئة وجرباً وبرصاً وطاعوناً وكوليرا».
مثلما ينتهي إلى أن هؤلاء: «القتلةُ يهرمون بقتلهم/ كما هرموا بكلامهم/ هرموا قبل موتاهم/ قبل أبطالهم المضرّجين بدم العالم/ القتلةُ يهرمون باكراً قبل براثنهم قبل شبابهم قبل طفولاتهم».
ومثلما يترك لنا تساؤلنا عن التوراة إن كانت مرجِعاً، حتى لو توهّمنا أنها حُرّفت، يلوّث كتبنا المقدسة بخرافات الإسرائيليات، وإيديولوجيا التطهير العنصري، ولوثات الإبادة الجماعية.

بول شاوول: «هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم»
دار راية للنشر، حيفا، الشارقة 2023
32 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب