ثقافة وفنون

المسرح العفوي على حافة الارتجال

المسرح العفوي على حافة الارتجال

عبدالحفيظ بن جلولي

نَعبر، ولم تتعود حاستنا البصرية على لافتة تحمل كلمة مسرح، أعني مدينتي، لكن أخيرا تأسس «المسرح الجهوي» كحركة عفوية من الجسد الذي أكد حضوره العفوي أيضا على خشبة الحياة في المدينة، «فأصبحنا ننقذف من جوف النوم إلى يقظة مبكرة، من منصات البيت إلى خشبة الشوارع»، كما يقول المسرحي العراقي جواد الأسدي.
معنى المسرح وأنا أتأمل اللافتة حديثة الحضور في وعي المدينة، هو السرعة التي تَحْدُث فيها الحركة انتقالا من «ركح المفتوح»، من المدينة باعتبارها «مسرحا احتفاليا» بتعبير عبد الكريم برشيد إلى «خشبة المحدود» أي المسرح، لكن بمعنى أعمق وأشمل. حين يرتمي الجسد في حلبة الإشارة والإيحاء، تتشكل بانوراما السرعة في تلقف وعي الحياة وإعادة رسمه داخل علاقات الجسد، تماما كما لو إننا نتقاذف بين أيدينا مطاول خبز ساخن، من مخبزة يقف أمام بابها طابور طويل من الناس، جميعهم يشتهي أكل الخبز في حينه، لكن عليه أن ينتظر الوصول إلى البيت، كي يتناوله رفقة اللمة العائلية، كذلك المسرح، تنتقل إليه حركة الحياة في تسارعها، لكنه ينتظر إلى أن تُتَرْجَم على قالب الجسد، كي تؤدي مهمتها بكل أناقة الممثل في حضرة فضول الجمهور.

براءة الطفولة المنتجة لجوهر المسرح:
يدخل مسرح الطفل ضمن مسار التشكل العفوي للمسرح، غير ممكن أن ننمط حركة جسد الطفل العفوية داخل أنظمة الاستهلاك المسرحية. ينتقل الطفل إما من البيت، أو من خشبة المدرسة باعتبارها مسرحا مفتوحا على الفعل التربوي، فيقف على الركح وهو مكتظ بنزقه الطفولي وانتظامه المدرسي، منتجا ضمن هذا البرنامج، الذي لا يعي تفاعلاته السريعة موقفا من هذا الكيان الثالث (المسرح) الذي عليه أن يتجاوب مع مكوناته من ديكور وممثلين وإضاءة. ليس على الطفل في مرحلة أولى أن يكون موجها، بل ربما يُترك لخلق الفعل المسرحي، الذي ينسجم مع دهشته الأولى وخوفه، بل وفرحته أيضا.
يُترك الطفل على خشبة المسرح لمصيره الابتكاري، يرتجل لحظته الفرجوية، في أعماقه، صورته ممثلا ومتفرجا في الوقت نفسه، لهذا يجب أن يُمنح فرصته للتجاوب مع عفوية المسرح الأولى، لإنتاج ارتجاله المُمَسْرح من خلال علاقاته بالأشياء الجديدة في وقوفه على الخشبة. كل إشارة من الطفل هي حركة مسرحية تُسَجل لصالح العرض المسرحي العفوي، فالخجل لأول مرة يُنتج «لغة الجسد الخجولة»، وبالمقابل هناك الطفل المندفع الذي يقدم عرضا فوضويا مليئا بـ»لغة الجسد المختلطة». تُصاحب حركة الجسد كلمات تُشَكل معنى في خيال الطفل قد لا ندرك حقيقتها، ولهذا يكون حضور الكاميرا ذا أهمية للتسجيل والتقديم البَعدي، حتى لا تُفْلَتُ من العرض إشراقاته واندفاعاته الأولى التي لا تُقلد، ولا يمكن إعادة إنتاجها في واقع الخشبة التي تَستمد من معنى الطفولة عفويتها وفوضاها.
يمكن أن يكون وجود الطفل على خشبة المسرح برهة لـ»بناء المساحة المفتقدة، المكان المستحيل، الحميمية المهددة بالانقراض»، بتعبير جواد الأسدي، تمثل هذه اللحظة الطفولية على المسرح مفقودا في علاقتنا الناضجة مع بكارة المسرح المكثف بالمبهج، الانفعالي والارتجالي، أحيانا لا نمسك بتلك اللحظة السحرية التي لا تتوافق مع رؤيتنا الناضجة للمسرح والمسددة بالنظرية والرؤية، إنها لحظة الارتجال الهاربة من نظام الأشياء، ولا يمكن أن يُحقق جوهرها المفعم بالانطلاق والحرية سوى الطفل، ولهذا قبل أن نرتدي قناع الممثل علينا أن نسلخ كل أقنعة المعايير الناظمة للحركة المحسوبة والمقاسة بنظام التراتب والانضباط الرتيبين.

التطهير المسرحي بين الطفل والمجتمع:
ليس هناك أسهل من عبور المدينة حين نراها فضاء وظيفيا، أما حين تكون المدينة روحا تسكن يومياتنا، حينها فقط نضع أيدينا على زواياها النابضة بالأمل، ضمن حركة واعية تتوخى المخبوء والمهمش.
استدعى صديقي عبد الله الهامل – مدير المسرح الجهوي – الطفولة بكآبة من يهمه فصل المستقبل في مسرحيةٍ تَنْبُتُ من ركح المدينة وتستكمل أجزاءها في خيالنا كمهتمين بمستقبل الأجيال، حينها أعلنَ عدم خوفه على الأجيال الحاضرة لاندماجها في عالم التكنولوجيا الحديثة وتحكمها في استعمالاتها، أي وعي الطفل المتجدد بعالم يتغير وفق مستجدات متسارعة. حديث المدينة وتحولاتها وتأثيرها على الأطفال قد يكون خارج اهتمامات الكثير من الفاعلين المجتمعيين، لأن رؤية الطفل العفوية تقع خارج حسابات عالم الكبار بحسبان أنفسهم يمتلكون العقلانية اللازمة للتفكير، فهل العفوية لا علاقة لها بالعقل، وهل الطفل لا يمتلك تفكيرا عقلانيا ولو بمعطيات عالمه المفتوح على الارتجالي؟
قارن عبد الله بين نشأتنا في بيوت منبسطة ونشأتهم في علب مصفوفة طوليا، وهذه التفاتة منبهة إلى تأثير الوسط الاجتماعي على سلوكات الأطفال، الانحراف والجنوح، وهنا تظهر أهمية المسرح كعامل لـ»التطهير» عن طريق الدراما، تراجيديا وكوميديا، أو ما أطلق عليه عبد الله الهامل «العلاج النفسي عن طريق الفن» ضمن «مشروع التنمية المسرحية (حلم)»، الذي يقوم عليه المسرحي مختار حسين.
كان عبد الله مفعما بالأمل وهو يحكي عن بعض عناصر مشروع «حلم»، ومنها «تقليد»، إذ يُترك للطفل مطلق الحرية في تقليد من يحب، معلمه أو أبيه أو صاحب الدكان أو.. ثم يعرض التقليد على المعني، كيفما كان، والطفل في هذه الحالة يكون كاشفا لما يشوب علاقاته مع الآخرين باعتباره فاعلا، وبهذه الطريقة يتم «تطهير» العلاقات من السلبيات. من عناصر مشروع «حلم» أيضا «عاصفة الأوراق» و»أسطورة المقاومة»، وكلها تهدف إلى فتح الطفل على المجتمع من خلال المسرح، والجميل فيها هو كتابة النص المسرحي من خلال ما يصدر عن الأطفال بعفوية.

الركح باعتباره أثرا:
كان الفرح الطفولي غامرا، هنا وهناك وشوشات الأطفال التي لم يستطع أحد منعها، والموعد كان «مسرح الطفل» حيث قدم الأطفال عرضا حول «التنمر»، وقدم أطفال مدرسة «الصم البكم» عرضا أيضا حول التنمر، معلنين للمجتمع أنهم «ذوو الهمم» وليسوا «ذوي الاحتياجات الخاصة».
المسرح هو هذه الحركية التي تعلن أن الأشياء لا يمكن فهمها في اتجاه واحد، إنما تفهم من خلال تقليبها فيما يشبه ضوضاء الجسد على الخشبة، حين تمتلك الأطراف والجدع والرأس حريتها في أن تبوح عفويا بما يمكن أن نفهمه منها تأويلا. يبدو لي أن المماثلة بين طبيعة المسرح المفتوحة على الارتجالي المفاجئ وطبيعة الأطفال الارتجالية ضرورية كي نفهم سر التغيير الذي يحدثه المسرح في النفس، فتقنية المشاهد التي يعتمدها المسرح هي بمثابة النوافذ التي تفتح على الشخوص المسرحية، التي تعتلي الخشبة المرتفعة عن مستوى استقرار الجمهور في القاعة، وبالتالي فالشخوص تَعرِض نفسها مواجِهةً الجمهور، وهو ما يُحدث التفاعل بوعي أو من دونه بين الفعاليتين (الجمهور والممثل) بقراءة كل منهما للآخر، دون إغفال أن الممثل يقرأ الذات الجماعية للجمهور، وهو ما يمكن أن يشكل مستوى ثالثا غير منظور للحالة المسرحية، فالممثل يؤدي الدور بالحوار، والجمهور يستقبل وهو ما قد يُبقي العرض في مستوى القطيعة، لكن رؤية كل من الممثل والجمهور لبعضهما بعضا هي ما يشكل الحوار الثالث المخفي في أعماق كل منهما، وهو ما يمنح العرض استمراريته بعد إسدال الستارة على الركح، وهو ما يمنح التمييز بين أثر الشاشة الذي يستمر تخييلا وأثر الركح الذي يستصحب أثرا.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب