مقالات

العرب ومرحلة التيه-قصة اللقاء الذي جمعتني مع الفيلسوف والمفكر العربي السوري الراحل الدكتور إلياس فرح بقلم الدكتور  رياض العيسمي

بقلم الدكتور  رياض العيسمي

العرب ومرحلة التيه-قصة اللقاء الذي جمعتني مع الفيلسوف والمفكر العربي السوري الراحل الدكتور إلياس فرح
بقلم الدكتور  رياض العيسمي
بينما كنت في خلوة مع نفسي أراجع ما وصل إليه الوضع في سورية وواقع العرب اليوم في ظل تغول إسرائيل دون رادع، ولا حتى أصوات احتجاج، تذكرت قصة اللقاء الذي جمعني في واشتطن مع الفيلسوف والمفكر العربي البعثي السوري الدكتور إلياس فرح في صيف عام ١٩٨٢. وكان الدكتور إلياس في حينها عضوا في القيادة القومية لحزب البعث في العراق. وجاء اللقاء بعد اجتياح إسرائيل لبيروت. وكانت إسرائيل قبلها بحوالي العام، عام ١٩٨١، قد دمرت مفاعلات العراق النووية. وجاء اللقاء أيضا في وقت كانت الحرب العراقية الإيرانية قد دخلت بمنعرج خطير بعد احتلال ايران لشبه جزيرة الفاو العراقية في مدخل الخليج العربي. وذلك مما ادخل الحرب العراقية الاإيرانية في حالة من الاستنزاف. تحول فيها العراق من موقع الهجوم المريح إلى واقع الدفاع القلق. وكان الوضع العربي في حينها مزريا ولا يعبر عن أدنى حدود التعاون والتضامن. بل قسم من الدول والنخب العربية قد اصطفت مع إيران صد العراق. فاستغليت وجود الدكتور إلياس معنا في جلسة ضيقة لأسأله عن رأيه في حالة الضياع العربي الذي كان العرب يعيشونها في تلك الأيام. وذلك بكونه يعتبر أحد أهم المفكرين العرب الموضوعيين. فنظر إلي بتمعن بعد أن عدل من جلسته وقال، وهنا اقتبس بتصرف: “العرب هم اليوم ليسوا في حالة من الضياع، وإنما في مرحلة من التيه” وبالرغم من أنني كنت اصغي إليه بدقة وانتظر بلهفة لرده. لكنني لم استوعب مليا ما كان يقول. فلاحظ الحيرة على ملامحي. فتابع القول موضحا، وهنا أيضا اقتبس بتصرف: عندما يكون الإنسان في حالة من الضياع، تكون الحالة مؤقتة وقصيرة. ومن ثم يكتشف الإنسان خلالها طريقه الذي كان قد أظله لسبب ما. ومن ثم يتابع المسير إلى الوجهة المطلوبة. ولكن التيه هو أن يسير الإنسان في الصحراء على غير هدى بوجهة معروفة الملامح ودون وجود بوصلة توجهه.” ولشدة شغفي بما قاله، لم أكن أريد أن أتكلم بشيء، سوى توجيه سؤال مباشر له حول ما قاله بمعرفة وعناية وحذر. وكم باعتقادك يمكن أن تدوم مرحلة التيه هذه عند العرب؟ فنظر إلي وملامح الجد قد بانت على وجهه هذه المرة. وعدل من جلسته مرة أخرى وحتى اقترب وجهه بمساواة وجهي من أمام شخص كان يفصلنا في الجلسة على المقعد. وأخذ نفسا عميق، وقال: لا أحد يدري طول الفترة الزمنية لهذه المرحلة بالضبط. وهي ستعتمد على جملة من المتغيرات التي ستحصل في المرحلة القادمة التي ستلي هذه المرحلة التي نحن فيها، ولكن مرحلة التيه هذه قد تمتد إلى مائتي عام. ذهلت وصدمت، فصمتت. وكذلك لاحظت نظرة التيه هذه نفسها على وجوه من كان معنا.
أكثر من أربعين عاما مضت على هذا اللقاء مع الدكتور إلياس فرح. توفي خلالها الدكتور إلياس وكذلك توفي كل جيله من المفكرين العرب والقادة البعثيين بدءا بمؤسس الحزب ميشيل عفلق وصدام حسين. وكذلك تم اختطاف شبلي العيسمي من لبنان عام ٢٠١١ بعد اندلاع الثورة السورية وإيداعه احد السجون السورية. لا شك بأنه قضى في سجنه بحكم العمر، ولكن مصيره مايزال مجهولا حتى اللحظة. كما وكانت بغداد قد سقطت عام ٢٠٠٣ واحتل العراق. وتغولت إيران في المنطقة وانتشرت ميليشياتها وأتباعها في كل المنطقة من صنعاء إلى بيروت. لم تخرج إيران من المنطقة بشكل نهائي بعد، لكن إسرائيل دقت أبواب بيروت من جديد. وتزحف الهوينا باتجاه دمشق. وحالة التيه التي وصفها الدكتور إلياس فرح قبل ثلاثة وأربعين عاما بأنها تخيم على الواقع العربي في حينها تزداد اليوم اتساعا وعمقا، ليس فقط برقعتها السياسية والجغرافية، بل الفكرية والمجتمعية. وهذا ما يؤكد بأن العرب هم اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى صدمة فكرية وثقافية ومجتمعية تقود إلى صحوة تنويرية، وإلا مرحلة التيه التي يعانون منها لن تكون مرحلة تقدر بزمن، وإنما نهوضهم الذي يتغنون به هو الذي كان مرحلة عابرة في التاريخ. والأفكار التي لا تتجدد لتتجاوب مع متطلبات الواقع في كل مرحلة، تفقد مبررات وجودها وتتلاشى مع الزمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب