
إيدي ريدماين وفن التمثيل: امتداد حديث للمدرسة الإنكليزية

مروة صلاح متولي
عند مشاهدة الممثل البريطاني إيدي ريدماين، قد يشعر المرء بأنه أمام آخر كبار التمثيل الإنكليزي، أو أحدث حلقة من حلقات سلسلته الطويلة، التي ضمت أسماء ذهبية منذ أن عرف العالم فن السينما، غالية هذه الأسماء كانت مقبلة من المسرح، وظلت راسخة الأقدام على الخشبة، لم تفارقها مهما لمع نجمها وارتفع شأنها على الشاشة.
نشأ ريدماين أيضاً نشأة مسرحية منذ الطفولة وسنوات الصبا، كما شارك بشكل احترافي في مجموعة من الأعمال المسرحية الرصينة، ربما قلت أعماله المسرحية بعد ذلك أو اختفت، لكننا على كل حال أمام ممثل دخل إلى السينما من باب المسرح، وهذا الأمر في حد ذاته ينبه المشاهد إن كان يعلم، ويجعله يتطلع باهتمام زائد إلى هذا الممثل، أما إذا كان المشاهد لا يعلم أن هذا الممثل قادم من عالم المسرح، فإنه سيكتشف ذلك بنفسه، أو على الأقل سيلاحظ شيئاً مثيراً وأمراً فائقاً في الأداء. لا يمكن مقارنة إيدي ريدماين بعباقرة التمثيل الإنكليزي مثل بيتر أوتول وريتشارد بيرتون وإيان ماكيلين وأنتوني هوبكنز، وغيرهم من الأسماء اللامعة على شاشة السينما وخشبة المسرح، الذين كانوا شكسبيريين في معظمهم. لكننا نلتمس في ريدماين شيئاً من الأسلوب الإنكليزي أولاً بكل تأكيد وروحاً من كلاسيكيته رغم حداثة التكنيك، ونجد عنده ذلك العالم الخاص الذي يميز الممثل وطريقته في الأداء.
السينما والانطلاق السريع
إيدي ريدماين نجم عالمي بملامح إنكليزية أصيلة، تمثل نسبة لا بأس بها من عموم مجتمعه، يتكلم بلكنة بريطانية دقيقة يكون لها وقع فني خاص عند استخدامها في الأدوار التمثيلية، فاللكنة البريطانية دائماً ما تضفي رونقاً مختلفاً، يجعل الكلمات الملقاة أقرب إلى الطابع الأدبي وإن لم تكن مستقاة منه، كما أن اللكنة البريطانية تكون أكثر قدرة على التعبير عن الفترات والشخصيات القديمة، لذلك تكون ملائمة جداً للأعمال التاريخية والمعالجات الفنية للأدب المسرحي والروائي والقصصي حتى من اللغات الأخرى المنقولة إلى اللغة الإنكليزية.
بدأ ريدماين المولود عام 1982 علاقته بفن التمثيل في سن صغيرة، حيث شارك في طفولته وسط عدد كبير من الأطفال في مسرحية أوليفر، المأخوذة عن رواية «أوليفر تويست» للكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز، صاحب المؤلفات الروائية ذات الأثر الخالد في الثقافة الإنسانية العالمية بشكل عام. كان المسرح إذن ملعب أيام الطفولة وساحة ممارسة الهواية في فترة الصبا، وقاعة الدرس والتدريب والتكوين، وبداية الاحتراف والظهور ثم منصة الانطلاق نحو السينما في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والإنتاج العالمي الضخم لأفلام تضمن النجاح من قبل أن تعرض، وتحجز مسبقاً أهم الجوائز السينمائية. كان ريدماين محظوظاً بلا شك بمشاركته في مجموعة من الأفلام المهمة للغاية، وبأنه استطاع في فترة فنية لا تعد من أفضل فترات السينما والفن عموماً، أن يحتفظ في قائمة أعماله بعدد من الأفلام التي سيحتفظ بها تاريخ السينما رغم حداثتها نسبياً. ربما وصل ريدماين إلى ذروة الشهرة والنجاح عندما جسد شخصية عالم الفيزياء ستيفن هوكينغ في فيلم «نظرية كل شيء»، حيث توج بجائزة الأوسكار لأحسن ممثل عام 2015، وقد رشح كذلك لجائزة الأوسكار عن أدوار أخرى لكنه لم ينلها، كما حصد العديد من الجوائز الأخرى ذات القيمة الرفيعة. لم يكن ذلك الدور الصعب في فيلم «نظرية كل شيء» الذي تطلب أداء جسدياً شديد الخصوصية، أول أدوار ريدماين المهمة التي تفوق في أدائها، وعند الرجوع إلى بداياته التمثيلية نتبين مدى قوة الموهبة التي نحن بصددها، بالإضافة إلى ما يتسم به من جدية الإبداع والإتقان الصارم، وهي سمة يتصف بها غالبية الممثلين الإنكليز.
ريدماين والأدب
إلى الآن تقاطعت مسيرة ريدماين التمثيلية في السينما والتلفزيون أكثر من مرة مع عالم الأدب، ودخل من خلال بعض أعماله إلى مؤلفات روائية قديمة تعد من عيون الأدب العالمي وروائعه الخالدة، وكذلك كتابات روائية حديثة نسبياً وذات جودة رفيعة، كرواية Birdsong للكاتب البريطاني سباستيان فوكس الصادرة عام 1993، في المعالجة التلفزيونية للرواية التي جاءت على شكل دراما من حلقتين أو فيلم تلفزيوني طويل انقسم إلى جزئين، عرض العمل للمرة الأولى عام 2012 ولعب فيه ريدماين دور البطولة، حيث جسد شخصية ستيفن الشاب البريطاني الذي يشارك في الحرب العالمية الأولى، يعبر ريدماين عن الكثير من الجوانب العاطفية والإنسانية في شخصية ستيفن، مشاعر الحب ولحظات السعادة المقتنصة، رغماً عن العادات والتقاليد، واختلاط الأفكار تجاه الحرب ما بين الإحساس بالواجب والرفض الإنساني لكل ما يحدث، وهو ما يلمسه المشاهد عندما يخرج ستيفن من نفق تحت الأرض ظل محاصراً في داخله لأيام طويلة، يعايش خطر الموت لحظة بلحظة ولا يعرف شيئاً عما يجري خارج هذا النفق، وعندما يتمكن أخيراً من الخروج من النفق وهو يكاد يحتضر، يجد أمامه جندياً ألمانياً، ويظن أن لحظة النهاية قد حانت، لكن الجندي الألماني يخبره بتوقف الحرب، فيلقي ستيفن نفسه في أحضان الجندي الألماني، أو العدو الذي كان ينتظر منه القتل، ويضمه كما لو كان يضم إنسانيته الضائعة.
في دراما تلفزيونية أخرى من إنتاج BBC وعلى مدى أربع حلقات، جسد ريدماين شخصية آنجيل في رواية Tess of the d’Urbervilles للكاتب الإنكليزي توماس هاردي الصادرة عام 1891. تس هي بطلة الرواية وشخصيتها الرئيسية الآسرة، وتعد من أهم الشخصيات النسائية في الأدب العالمي، أم آنجيل الذي لعب دوره ريدماين فهو الحبيب الثاني لتس، أو الحبيب الحقيقي بعد تجربتها المريرة مع أليك. يعبر ريدماين عما يعيشه آنجيل من صراعات داخلية بين حبه القوي لتس، وتقاعسه أو تردده في حمايتها، وحزنه الشديد وربما ندمه الذي سيلاحقه حتى بقية حياته، عندما يتم إعدام تس بعد أن تقوم بقتل أليك. ومن رواية «البؤساء» لفيكتور هوغو، جسد ريدماين شخصية ماريوس في الفيلم الغنائي المأخوذ عن المسرحية الموسيقية الشهيرة، من خلال السرد الغنائي للأحداث كانت مشاهد ريدماين تعبر عن نضال الشباب في الثورة الفرنسية، والوقوع في الحب واختبار مشاعر الفقد وتساقط الأصدقاء من حوله، وكان متألقاً في أداء أغنية مقاعد فارغة، التي تصف شعور ماريوس بالحزن على مقتل رفاقه من الثوار، وإحساسه بالذنب لأنه نجا وهم ماتوا.
يمتلك إيدي ريدماين اللكنة البريطانية بطبيعة الحال وطلاقة الإلقاء، كما يمتلك صوتاً كبير المدى، لكنه يميل في كثير من الأحيان إلى الصوت الهادئ الخفيض حتى في لحظات الانفعال، فلا يعتمد على ارتفاع الصوت وقوته، ويفضل أن يوزع مشاعر الغضب والثورة على ملكات أخرى إلى جانب الصوت، وهذا يمنح المتلقي قدراً من الهدوء يعينه على التركيز مع قدراته كممثل، ويجعله أكثر إنصاتاً له واستمتاعاً بصوته وإلقائه. يحظى هذا الإنكليزي البارع بما يجب أن يتوفر لدى كل ممثل من دقة الإحساس وذكاء العاطفة ومرونتها، ومهارة تقديم الشخصية الخيالية بصفاء تام دون أن يثقلها ويعكرها بشوائبه، وفوق ما يمتلكه ريدماين من أساسيات الممثل، يوجد السحر الخاص واللمسة الفريدة والطابع الشخصي الذي لا يمكن استعارته أو محاكاته، ما جعله من أهم وأكبر الممثلين في وقتنا الحالي وهو لا يزال في منتصف مسيرته الفنية. يتجلى أداء ريدماين الفريد وموهبته القوية وقدرته على التعمق في الشخصيات فيما قام بتمثيله من أدوار حتى الآن، ونلاحظ تمكنه البالغ من تقديم الشخصية من الداخل إلى الخارج، أو التركيز الشديد على الداخل أولاً، كما في تجسديه لشخصية ليلي في فيلم «الفتاة الدنماركية»، فعلى الرغم من التحولات الشكلية إلا أن السر كان يكمن في شبكة المشاعر المعقدة التي تتفاعل وتتصارع في أعماق الشخصية، وتنعكس على كل حركة وإيماءة وإشارة. على العكس تماماً من التمثيل من الداخل إلى الخارج الذي اعتمد عليه في فيلم «الفتاة الدنماركية»، ذهب ريدماين إلى التمثيل من الخارج إلى الداخل في فيلم «نظرية كل شيء»، أثناء تجسيده لشخصية ستيفن هوكينغ، وكان التركيز على الأداء الجسدي بدرجة كبيرة وتتبع مراحل المرض ودرجات العجز عن الحركة. يمكن لأي ممثل ناشئ أو دارس لفن التمثيل المقارنة بين هذين الدورين وأسلوبيهما المختلفين في الأداء، والتعلم والاستفادة منهما كنموذجين واضحين.
كاتبة مصرية