ثقافة وفنون

عندما كانت السينما منبراً ثقافياً: ذاكرة الزمن الجميل للفن السابع

عندما كانت السينما منبراً ثقافياً: ذاكرة الزمن الجميل للفن السابع

محمد باهي

كانت الفضاءات السينمائية في أزمنة سالفة، محجا لحشود جماهيرية ممن تستهويهم متعة الفن السابع بمختلف توجهاته وتلاوينه، وكان القصد من ولوجها ليس ترفا، بقدر ماكان رغبة ملحة لتلبية حاجيات ثقافية وفكرية وفلسفية، والبحث عن أصدقاء حاملي أفكار تتقاطع وتتلاقح فيما بينها، لتنتج نقاشا عميقا تنتابه تجاذبات واختلافات، تفضي في نهاية المطاف إلى بسط موضوعات ذات دلالات بالغة، من شأنها إغناء المجالات الثقافية والفكرية والفلسفية في أنماطها وأبعادها المتعددة الأشكال.
وفي هكذا سياقات، أستحضر زمن الفن السابع خلال عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي فترة تحيل على نوستالجيا عارمة لمجايلي تلك الحقبة التاريخية التي كان لها ألقها وتوهجها، وكانت لها حميميتها الرفاقية، وكان لها أيضا منسوب عال من الإنتاجات الفكرية المرتبطة بشكل أساسي بتوجهات أيديولوجية، فرضتها الظرفية التاريخية آنذاك، حيث كان الصراع والتجاذب على أشده بين الأقطاب الثلاث: الاشتراكي والشيوعي والرأسمالي، وهي منظومات فكرية كانت تستمد مشروعيتها من الصيرورة التراكمية للفعل النضالي ،والصراع بين الطبقة البروليتارية وأنظمة الحكم، إلى جانب الطبقات المشغلة ذات التوجه الرأسمالي آنذاك.
وبوتيرة النفس النوستالجي ذاته، تحضرني أجواء وخصوصيات ماكان يصطلح عليه بنادي العين الذكية ،الذي تم تأسيسه منتصف سبعينيات القرن الماضي بمدينة الفقيه بن صالح وسط المغرب، والتي سبق أن منح لها الشاعر الراحل عبد الله راجع لقب المدينة السفلى في إحدى دواوينه الشعرية :الهجرة الى المدن السفلى، وقد تم تخصيص ذلك النادي خصيصا للأنشطة السينمائية ،والمساهمة في نشر الوعي بمقاصد وغايات الفن السابع ، وترسيخ قيم وثقافة العمل السينمائي ،في أبعاده المتكاملة ،سواء من حيث الإخراج أو الإنتاج أو تمثيل الأدوار ،فضلا عن الأكسسوارات الفنية والمونتاج والميكساج والسينوغرافيا ،وغيرها من الميكانيزمات المرتبطة بالسينما وفعالياتها المتعددة الأشكال .
والأكيد أن نادي العين الذكية شكل محطة فارقة وذاكرة تاريخية مفصلية لتاريخ «المدينة السفلى»: مدينة الفقيه بن صالح، حيث كان له الفضل في نشر الفعل الثقافي والفكري والفلسفي على نطاق واسع ، وذلك موازاة مع فترة سياسية صعبة للغاية آنذاك، حيث كان لأساتذة الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والأدب وبعض الطلبة ،دور فاعل في تأطير ورشات النقاش التي كانت تعقب عرض الأفلام السينمائية الجادة والملتزمة ،والتي تعطي الانطباع أن انتقاءها كان يتم بعناية مركزة، حيث كان الهدف إمداد جيل من رواد السينما المتمثل في الفئة التلاميذية بشحنات فائقة من القيم والأفكار الراقية ،التي كانت تلامس قضايا المجتمعات وتبرز الإشكالات ذات البعد الكوني والإنساني ،وذلك موازاة مع الأنماط الأيديولوجية السائدة آنذاك.
ولعل ماكان يستأثر الاهتمام في تلك الفترة الزاهية المتسمة بألقها الفكري والثقافي والفلسفي ،توافد حشود هائلة من تلامذة سلك الثانوي التأهيلي لفضاء السينما الوحيدة بتلك المدينة الصغرى ،وكان القصد من التركيز على تلك الفئة العمرية مؤداه استيفاؤها لآليات الاستيعاب والتجاذب والنقاش وتطارح القضايا الفكرية ،إلى جانب التفاعل الذي يمكنها من ميكانيزمات الجدل الهادف والبناء ،مع مايطرحه الأساتذة المؤطرون من أفكار على هامش النقاش وتمفصلاته ،وذلك وفق منهجية متكاملة معدة سلفا ،بغاية إغناء أجواء المناقشة التي تعقب عرض الأشرطة السينمائية ،فكانت المحصلة تؤول إلى الخروج في نهاية المطاف بكم هائل من المعارف والأفكار والمسارات الفلسفية والمنهجيات الثقافية ،يشكل بفعل تراكمي رصيدا غنيا يسمو برواد السينما من فئة الطبقة التلاميذية إلى عقليات متفتحة ،تمتلك من الرصانة والنضج والوعي ما يجعلها ترسم مستقبلا زاهرا ،ساهم إلى حد كبير في تخريج أطر اشتغلوا في قطاعات حكومية متعددة ،وامتلكوا من الكفاءة المعرفية والعلمية والفكرية والثقافية ،مؤشرات عالية ،انعكست بشكل جلي على المردودية والإنتاج ، وكان لها نصيبها الأوفر في تدعيم الدورة الاقتصادية ،إلى جانب نقل المعارف ومنسوب القيم الثقافية والفكرية إلى الأجيال المتعاقبة.
ولعل المتتبع لمجريات وأطوار الفن السابع ،يلاحظ أن ما أصبح متداولا على مواقع التواصل الاجتماعي من منتوج ،والولوج المتيسر إلى قنوات متعددة قصد متابعة أشرطة سينمائية داخل البيت ، قلص إلى حد كبير من الصورة المعهودة لقاعات السينما في فترات سابقة، كانت تعج آنذاك برواد من مختلف الفئات العمرية ذكورا وإناثا، في أجواء حميمية ورفاقية تكتمل أطوارها بنقاشات هادفة ،فكانت بذلك الوقع فضاءات السينما بنية للتلاقح الثقافي والفكري والثقافي،وليس مجرد فرجة يلفها الاغتراب والوحدة ،وغياب المتعة المعرفية في أسمى تجلياتها.

كاتب من المغرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب