فيلم «كونكليف» الصراع على السلطة بين التقليد والتجديد في أروقة الفاتيكان

فيلم «كونكليف» الصراع على السلطة بين التقليد والتجديد في أروقة الفاتيكان
فايزة هنداوي
القاهرة ـ في أروقة الفاتيكان المغلقة، حيث تلتقي القداسة بالسياسة، ويمتزج الإيمان بالمصالح، تدور أحداث فيلم كونكليف، الذي يسلط الضوء على كواليس انتخاب بابا الفاتيكان الجديد بعد وفاة سلفه في ظروف غامضة.
هذا الحدث الذي يُفترض أن يكون طقسا دينيا خالصا، يتحول إلى ساحة صراع بين تيارين متناقضين داخل الكنيسة الكاثوليكية: المحافظون الذين يتمسكون بالتقاليد الراسخة، والإصلاحيون الذين يسعون إلى تجديد المؤسسة الدينية بما يتلاءم مع العصر الحديث. وسط هذه الأجواء المتوترة، تتكشف تحالفات خفية، وتظهر شخصيات ذات طموحات متضاربة، وفي ظل هذا التوتر، تتشابك المصالح السياسية مع القناعات الدينية، ما يجعل العملية الانتخابية ساحة معركة خفية تتحكم بها التحالفات والمناورات.
بين الأفكار الفلسفية والدراما المشوقة
يعد السيناريو، الذي صاغه روبرت هاريس عن روايته التي تحمل الاسم ذاته، أحد أقوى عناصر الفيلم، حيث استطاع الكاتب تحويل عمله الأدبي إلى سيناريو مشوق من دون أن يفقد عمقه الفلسفي، وفاز عنه بجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو مقتبس، وهو تتويج لمكانة هاريس كأحد أبرز كتّاب الدراما السياسية، حيث سبق له تقديم أعمال تناولت صراعات النفوذ داخل الأنظمة المغلقة، كما ظهر في «ميونيخ» و«أرض الآباء».
يعتمد السيناريو على بناء درامي متصاعد، يبدأ بتقديم أجواء الفاتيكان بعد وفاة البابا، مع التركيز على الشخصيات الرئيسية المؤثرة في الانتخابات، ورغم أن الأحداث تدور في بيئة محدودة مكانيًا داخل أروقة الفاتيكان، فإن الحوارات الذكية تجعل الأحداث نابضة بالحياة، إذ تتشابك المصالح، وتتصاعد الخلافات، ما يجعل كل حوار يحمل أبعادًا أعمق من مجرد تبادل الكلام.
إيقاع متوازن
يرتكز السيناريو على تقديم شخصيات متباينة، لكل منها دوافعه ورؤيته، ما يخلق صراعات نفسية وسياسية معقدة، ورغم أن القصة تدور في إطار سياسي ديني، إلا أن السيناريو يتجنب الرتابة بفضل إيقاع متوازن بين المشاهد الحوارية المكثفة والمواقف الدرامية المشحونة بالتوتر. يستخدم السيناريو لحظات الصمت المدروسة التي تضفي على المشاهد إحساسًا بالترقب، بينما تعكس التغييرات المفاجئة في المونتاج تصاعد التوتر داخل المجمع المقدس.
كما يعتمد على تقنيات السرد غير المباشر، حيث تُكشف بعض الحقائق والمناورات السياسية عبر وجهات نظر متعددة، مما يجعل المشاهد يشعر بأنه جزء من عملية الاختيار، لا مجرد متلق للأحداث.
السيناريو لا يكتفي برصد وقائع الانتخابات، بل يغوص في دوافع الشخصيات وصراعاتها الداخلية، ما يمنح الفيلم بعدًا فلسفيًا يتجاوز حدود القصة المباشرة، فكل شخصية تمثل رؤية معينة داخل الكنيسة، ما يجعل الحوار بين الكرادلة أكثر من مجرد نقاش ديني، بل انعكاسًا لصراع فكري حول هوية المؤسسة الدينية ومستقبلها.
ما يميز الحبكة هو تدرجها في كشف الصراعات، فلا يظهر التوتر بشكل مباشر منذ البداية، بل يتصاعد تدريجيًا مع تقدم الأحداث، لنتوهم في البداية أن الأمر مجرد عملية انتخابية منظمة، لكن سرعان ما تتكشف المناورات السياسية، حيث يستخدم كل طرف نفوذه وتأثيره للتأثير على الأصوات.
المثير في السيناريو أنه يعتمد على عنصر المفاجأة، فبينما يعتقد المشاهد أنه فهم اتجاه التصويت، سرعان ما تطرأ أحداث غير متوقعة تعيد تشكيل المشهد بالكامل.
مخرج يتقن بناء التوتر البصري والسردي
جاء الفيلم بتوقيع المخرج الألماني إدوارد بيرغر، وهو ليس غريبًا عن الأعمال التي تتطلب بناءً بصريًا معقدا وسردا دراميًا مكثفا. فقد اشتهر بأسلوبه الذي يعتمد على المزج بين الواقعية والتشويق النفسي، وهو ما يظهر جليًا في أعماله السابقة التي تنوعت بين الحرب والدراما الاجتماعية والتشويق النفسي، مثل فيلم «جاك».
مسلسل «دويتشلاند 83»، وفيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» (2022)، الذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، نقل بيرغر أهوال الحرب من منظور إنساني مؤثر، مستخدما زوايا تصوير خانقة وألوانًا باهتة تعكس رعب ساحة المعركة. هذا الأسلوب البصري المشحون بالمشاعر انعكس بشكل مختلف في كونكليف، فأروقة الفاتيكان تصبح ساحة معركة من نوع آخر، حيث يتم استبدال المدافع بنظرات متوترة، والانفجارات بمكائد تحاك في الظلام، يعتمد بيرغر على زوايا تصوير ضيقة تمنح المشاهد إحساسًا بالاختناق، وكأنه محاصر داخل جدران الفاتيكان، في مقابل زوايا واسعة لتأكيد هيبة المكان.
كما يوظف بيرغر الصمت كأداة درامية، حيث تصبح لحظات السكون أكثر تأثيرًا من الكلمات، ما يزيد من الإحساس بالتوتر. كذلك، يعتمد على لقطات طويلة تتابع الشخصيات أثناء حركتها داخل القاعات المزخرفة، مما يمنح المشاهد إحساسا بالتجسس على عملية سرية لا يُفترض أن يكون مطلعًا عليها.
قدسية المكان وصراعاته
لعب تصميم الديكور دورا جوهريا في خلق الأجواء الخاصة بالفيلم، حيث تم بناء أروقة الفاتيكان بتفاصيل دقيقة، لتبدو كأنها انعكاس واقعي للمكان الحقيقي. الجدران المزخرفة، اللوحات الفنية العريقة، والتماثيل الضخمة، كلها عناصر تؤكد الإحساس بالرهبة والقدسية، لكنها، في الوقت ذاته، تعكس ثقل التاريخ الذي يحمله هذا المكان.
كما أن اختيار الأزياء الكنسية بدقة جعل الشخصيات تبدو وكأنها امتداد لتاريخ الكنيسة وكانت الأزياء وسيلة تعبير عن مكانة الشخصيات داخل المجمع المقدس، كذلك، كان لتوظيف الإضاءة دور بارز في إبراز الشخصيات، حيث أحيانا تُسلط الأضواء على شخصية معينة، لتشير إلى أهميتها في المشهد، أو تترك شخصيات أخرى في الظل، لتعكس الغموض الذي يحيط بها.
وساهمت الموسيقى التصويرية في الإحساس بالجو المشحون للفيلم، حيث اعتمدت على نغمات هادئة في البداية، لكنها تصاعدت تدريجيًا مع تصاعد الصراع، ما جعلها جزءًا لا يتجزأ من الإحساس بالتوتر.
صراعات داخلية
في هذا الفيلم، تتجسد الصراعات الداخلية للكنيسة من خلال شخصيات الكرادلة الثلاثة، حيث يقف كل منهم عند مفترق طرق بين السلطة والمبادئ. برؤية درامية عميقة، يقدم رالف فاينس، جون ليثجو، وستانلي توتشي أداءً بارعا يكشف خفايا اللعبة السياسية التي تحكم مصير المؤسسة الدينية، وخاصة رالف فاينس الذي يجسد شخصية الكاردينال لورينزو، الرجل الذي يبدو في البداية محايدًا، لكنه يضطر لمواجهة الحقائق عندما يبدأ في اكتشاف اللعبة السياسية التي تُحاك حوله. أداء فاينس يتميز بقدرته على إيصال المشاعر الدقيقة من خلال تعابير وجهه فقط، حيث يعكس قلقه وتردده بدون الحاجة إلى حوار زائد. في بعض المشاهد، يكفي مجرد نظرة منه لنشعر بأنه على وشك اتخاذ قرار مصيري.
ويقدم جون ليثجو أداءً قوياً في دور الكاردينال تريمونت، أحد أبرز المحافظين في الكنيسة، الذي يرى أن أي تغيير قد يؤدي إلى انهيارها. أسلوبه في التمثيل يعتمد على النبرة الصوتية القوية والإيماءات المدروسة، ما يجعله يبدو كشخصية مخيفة لكنها في الوقت ذاته تحمل في داخلها قناعة راسخة.
أما ستانلي توتشي، فيجسد دور الكاردينال بيليني، الذي يمثل التيار الإصلاحي داخل الكنيسة. أداؤه متوازن بين الدبلوماسية والدهاء السياسي، حيث يظهر كشخص يسعى للتغيير، لكنه في ذات الوقت يعرف كيف يلعب اللعبة بدون أن يخسر موقعه.
يختتم «كونكليف» رحلته السينمائية بتقديم دراما غنية بالتفاصيل، لا تقتصر على الصراع الظاهري بين التيارات المتناحرة داخل الكنيسة، بل تتعمق في كشف الدوافع الخفية التي تحرك هذه الشخصيات، وتجعل كل قرار داخل المجمع المقدس أشبه بلعبة شطرنج محفوفة بالمخاطر، من خلال رؤية إخراجية بصرية متقنة، وسيناريو متماسك يوازن بين التشويق السياسي والبعد الفلسفي، نجح الفيلم في تحويل عالم مغلق على أسراره إلى ساحة درامية مشوقة. ومع أداء تمثيلي رفيع المستوى، تبرز الشخصيات بأبعادها المركبة، بين إيمان راسخ وطموحات سياسية متشابكة. في النهاية، يترك الفيلم المشاهد أمام تساؤل جوهري: هل يمكن أن تبقى السلطة بمنأى عن الصراعات البشرية، حتى في أكثر الأماكن قدسية؟
«القدس العربي»: