ثقافة وفنون

هل نالت فلسطين أول جائزة أوسكار مع «لا أرض أخرى»؟

هل نالت فلسطين أول جائزة أوسكار مع «لا أرض أخرى»؟

سليم البيك

لا يقتصر الموضوع على جائزة الأوسكار، فقد استهلّ فيلم «لا أرض أخرى» مشواره في مهرجان برلين السينمائي العام الماضي، خارجاً منه بجائزة أفضل فيلم وثائقي، وهذه سابقة فلسطينية، ماراً، الفيلم، بمهرجانات وجوائز، ليصل أخيراً، بعد أكثر من عام، إلى حفل الأكاديمية فيخرج منه بأوسكار أفضل فيلم وثائقي. الفيلم نال بالجائزتين العاليتين والعالميّتين، أفضل ما ناله وثائقي من أو عن فلسطين على الإطلاق. أما الأوسكار، فهي الجائزة الأعلى التي ينالها فيلم من وعن فلسطين، قطعاً، شاملاً كلامي هذا كافة الأعمال السينمائية، روائية ووثائقية. لنحكِ أكثر في ذلك.
كانت المقدمة أعلاه إجابة مستبِقة للنقاش أدناه، وهو في كون الفيلم فلسطينياً أصلاً. لنحدّد أولاً ما يمكن أن يجعله لا-فلسطينياً. مشاركة إسرائيلي في صناعه؟ لكن هذه المشاركة آتية من مشاركة أسبق له هي في تواجده مع أهالي مسافر يطا في نضالاتهم ضد التهجير، تواجدٌ وصل حدّ الشراكة أوصل إلى نتيجة أخيرة هي الفيلم الموثِّق لتلك النضالات. ليست الشراكة إذن من منطلق فني لكن تضامني على الأرض ممتد لسنوات، ومتموقع في أرض الحدث. هو ليس موقفاً سياسياً مطروحاً من موقع مريح وكفى، بل ممارسة تضامنية على الأرض بُني عليها الفيلم.
لكن حتى في موضوع المشاركة الفنية، فبعض من أبرز الأفلام في مسيرة السينما الفلسطينية كان بمشاركات إسرائيلية تقنية وفنية وتمثيلية وأحياناً إنتاجية (لظروف خاصة كحال الفيلم الأول لمخرجه). والتعقيد والتشابك في وضع فلسطينيي الداخل (في الـ ٤٨) يقحم اضطرارات قاسية كهذه. ليس مشاركة يوفال أبراهام إذن عائقاً في تصنيف الفيلم فلسطينياً.


والفيلم، بخلاف غيره، لم يمثّل دولة إسرائيل في المهرجانات، فلا جهة إنتاج إسرائيلية فيه. مثّل فقط فلسطين والنرويج. وخطأ صحافي مريع انتشر أخيراً، في أن الفيلم فلسطيني/إسرائيلي. لا. هو فلسطيني/نرويجي، وهو لفلسطيني وإسرائيلي. ويمكن لمن يبحث في عناصر خارج الفيلم ذاته، أن يجد في الهلع والسعار الإسرائيليين بالتهجّم على الفيلم، قيمةً معنوية مضافةً لفلسطينيّته، لا نرويجيّته.
أما فلسطين: الفيلم أولاً وثانياً وثالثاً يخدم السردية الفلسطينية، وهو بموضوع وشخصيات فلسطينية، وبنصف صناعة فلسطينية ونصف آخر إسرائيلي كان من موقع المشاركة مع أهالي مسافر يطا، أحداثاً وتوثيقاً. الأساس إذن كان أهالي مسافر يطا وما دونهم كان تابعاً.
أما النرويج: فجهة إنتاج أوروبية كما هو حال الأغلبية الساحقة من السينما الفلسطينية، والعربية والجنوب-عالمية المستقلة. ما الذي يكونه الفيلم إذن، نرويجي؟ هو نرويجي بقدر ما هو أي فيلم فلسطيني آخر فرنسي أو ألماني أو هولندي مثلاً. الشراكة في الإنتاج مسألة طبيعية بل ضرورية في الصناعة السينمائية، حتى في إنتاجات دول الغرب. الإخراج والموضوع ومعهما الإنتاج الأوّلي، تحدد هوية الفيلم، أي تصنيفه لدى المهرجانات حيث ينطلق بعروضه الأولى، هي الكلمات اللازمة عند خانة «الدولة». حتى لو تركنا الرغبة في التصنيف الفلسطيني للفيلم، واتجهنا للبحث في تصنيفات أخرى، فإن الفيلم ضيَّق على هذا التفادي في حصر «الدول» بفلسطين والنرويج، وليس في الفيلم ما هو نرويجي سوى الإنتاج، وهذا عرفٌ ممتد على عموم الصناعة السينمائية اليوم، إذ لا تُحدد الشراكة في الإنتاج هوية الفيلم. لم يبقَ إذن، تفادى أحدنا ذلك أم تقصّده، سوى «فلسطين» تصنيفاً لـ «دولة» الفيلم.
ولا ضرر إن ذهب أحدنا أبعد وصنّفه فيلماً خليليّاً.
أما وقد نفينا الاحتمالات الأخرى، فلنبحث أدناه في «فلسطينية» الفيلم.
لكن لا حاجة فعلياً لنفي الاحتمالات الأخرى، وهي النرويج فقط، كي نمنح الفيلمَ تصنيفاً فلسطينياً، ولا ضرورة لجلد ذات في القول: فليبقَ الفيلم غير محدّد، في حالة انعدام الجنسية (Statelessness)، وهي حالة غير لطيفة عاشها صاحب هذه الأسطر لعشر سنوات في فرنسا. في الفيلم ما يرمي عنه غير ما هو فلسطيني، وفيه كذلك ما يرمي عليه انتماءً فلسطينياً أبعد من كلمة «فلسطين» أمام اسم «الدولة» في بطاقة الفيلم لدى هذا المهرجان أو ذاك.
«لا أرض أخرى» (No Other Land)، انطلق إلى العالم في البرليناله ضمن مسابقة «بانوراما»، وتتالت من بعده المشاركات والجوائز. هو من صناعة أربعة نشطاء لا خلفية سينمائية معروفة لديهم. فصناعة الفيلم أتت كعمل ناشطي في قرية مسافر يطا قرب الخليل في الضفة، وتحوّل هذا العمل إلى فيلم وقّع عليه إخراجاً ومونتاجاً كل من باسل العدرا ويوفال أبرهام، وحمدان بلال وراشيل تسور. اشتغل على الموسيقى أيسلندي، وتصميم الصوت نرويجي، وهو لشركة الإنتاج «أنتيبود»، يديرها نرويجي وفرنسي.
تقوم الأفلام المستقلة اليوم على شراكات في الإنتاج، وهوية الفيلم يحددها صانعه أولاً، أما في الحالة الفلسطينية حيث تتشابك القضية مع الانتماء مع الهوية، فنجد أفلاماً، وهي كثيرة وتحديداً الوثائقيات، فلسطينية بموضوعها وشخصياتها، وتكون بإخراج أوروبي وإنتاجات مشتركة، لكنها تبقى ضمن السينما الفلسطينية التي تتسع لما يصنعه غير فلسطينيين، بل كانت تتسع لأفلام يصنعها متضامنون منذ السبعينيات، ولا تزال. ومن دون الإنتاجات المشتركة أو التقنيين الأجانب، لما وجدت اليوم سينما فلسطينية. إذن لا يكون الفيلم الفلسطيني بمُخرج فلسطيني حصراً، وأصلاً لا يمكن أن يكون بحصرٍ فلسطينيٍّ للإنتاج أو التقنيين.
اعتباراً لما ذكرته أعلاه عن الشراكة الإسرائيلية في الإخراج والمونتاج لفيلمنا هذا، وهي متساوية بالنصف مع الفلسطينيّين، واعتباراً لموقع الإسرائيليين في الشراكة مع أهالي مسافر يطا في صناعة الحدث والموضوع قبل صناعة الفيلم، واعتباراً للتداخلات الإسرائيلية والتدخّلات في تاريخ السينما الفلسطينية، وإن تمنى أحدنا خلاف ذلك، واعتباراً لحال السينما المستقلة عالمياً وتشابك الاختصاصات التقنية والهويات الوطنية، وباعتبار المقالة أعلاه من سطرها الأول هي مقدِّمة، ستكون مقدمة لنتيجة أنّ «لا أرض أخرى» فيلم فلسطيني لا غبار عليه.
بالتالي، تعلن هذه الأسطر أننا أمام أول جائزة أوسكار فلسطينية. أول جائزة أوسكار لفلسطين. أول فلسطيني ينال جائزة أوسكار.
لهذه الجائزة الأمريكية أهميتها لأسباب يطول شرحها، لكن قبلها كان للفيلم مشوار لا يقل أهمية عن هذا التكريم، وهو تكريم ليس ختامياً، فالأوسكار فتح أمام الفيلم أبواباً جديدة، مجدِّداً مشواره. «لا أرض أخرى» الذي نال أكبر جائزة مهرجاناتية في تاريخ الوثائقيات الفلسطينية، هي أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، نال ما قد لا يقل عن ذلك أهمية، فللمهرجان البرليني أهمية خاصة في كونه واحداً من أكبر ثلاثة مهرجانات سينمائية، مع مهرجانَي كانْ وفينيسيا. لكن الفيلم نال كذلك، في نوعه، الوثائقيات، جوائز تتفاوت في تسمياتها، في أهم المهرجانات المتخصصة بالوثائقي، منها: idfa، Visions du Réel، Sheffield DocFest، CPH:DOX. عدا عن المشاركات في مهرجانات أخرى خارج المسابقات، منها: Cinéma du Réel.
هذا كله يجعل من الفيلم منجَزاً غير محصور بالأوسكار، فقد وصله بجوائز كانت اعترافاً بجودته كوثائقي قبل أن تكون تكريماً لمضمونه وشكله، لقضيته ومعالجته هذه القضية. فإن تشكّى أحدنا وشكّك في ما تمنحه أكاديمية الأوسكار، بفعل تاريخ هوليوود البائس، لهذا الفيلم أو ذاك، فإن «لا أرض أخرى» وصل إلى أوسكاره باستحقاق، بعد طريق طويل ومتعثّر، فلم يجد حتى اليوم التالي من الجائزة، موزّعاً أمريكياً، مثلاً، وذلك تضييقاً على فرص الفيلم لنيل الأوسكار، لكنه نالها ومن دون توزيع في الصالات، ونال قبلها جوائزَ تثبت أهليّته ليكون وثائقياً عظيماً. هو مشوار بدأ من قمة عالية في برلين وواصل الفيلم علوَّه في مستوى آخر مع الأوسكار. اليوم، يبدأ الفيلم مشواراً جديداً متجدّداً ناقلاً قصةً لا يعرف بها الكثير من الفلسطينيين ومعظم العرب وكل العالم، هي محاولات التهجير والتدمير الممتدة لعقود في قرية مسافر يطا.
من الآخر: الجائزة الأولى الوحيدة لوثائقي من أو عن فلسطين، وهي الجائزة الأكبر التي ينالها وثائقي من أو عن فلسطين في أحد المهرجانات الكبرى الثلاثة (كان وفينيسيا وبرلين)، نالها «لا أرض أخرى»: أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي. كذلك، الجائزة الأكبر على الإطلاق لأي فيلم من أو عن فلسطين، روائي أو وثائقي، نالها «لا أرض أخرى»: أوسكار أفضل وثائقي. حدثان تاريخيان للسينما الفلسطينية أنجزهما عملٌ واحد.
نعم، هو فيلم فلسطيني تماماً. نعم، هي أول مرة ينال وثائقي فلسطيني جائزةَ أفضل وثائقي في مهرجان بحجم برلين السينمائي. نعم، هي أول مرة ينال وثائقي فلسطيني جائزةَ أوسكار. هي أول أوسكار فلسطينية.

كاتب فلسطيني/سوري

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب