ثقافة وفنون

«حلت البركة»: لمن أهدي زهرة الياسمين؟!

«حلت البركة»: لمن أهدي زهرة الياسمين؟!

عاطف محمد عبد المجيد

ما زلت أدين لسفرة رمضان بما أحمله في قلبي من ذكريات، عندي حنين لطبق الفول، الذي كان يتوسط كل طعام، لصينية الكنافة التي صُنعت ببطء على النار، لطبلة المسحراتي الذي كان يمر كل ليلة تحت شباك البيت يغني أسامينا، فتجمعنا سفرتنا الكبيرة من جديد نأكل ونضحك ونستعد لصلاة الفجر وقلوبنا سعيدة. يظهر حنين يسري الفخراني هذا في كتابه «حَلّتْ البركة» الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع، وفيه نقرأ مجموعة مقالات، موجهة في الأساس إلى القارئ العادي، بلغة تناسب حجم ثقافته، مضيفة إلى معارفه كثيرا، يعبر فيها الكاتب عن مشاعره تجاه أشخاص وأحداث وطقوس وذكريات، موثقا إياها هنا، مشيرا إلى حنينه ورغبته في العودة إلى كل ما هو جميل، سواء أكان زمنا، أم شخصا، أم طقسا، أم ذكرى. يسري الفخراني الذي يكتب هنا قائلا إن الحياة الجاهزة حياة جافة مهما بدا لها وجه لطيف من اختصار الوقت والجهد، فهي في الحقيقة تقدم نوعا من الحياة منزوع البهجة والتفاصيل، يذكر أن البركة تُيسر الصعب، تجعل العتبات مبهجة، تنير القلب ولا تشغله بالدنيا، تسكن بيوت المبتهلين لله بالبركة فتجعلها بيوت سكن، النوم فيها مريح، والسهر فيها صلاة لله لامتداد نِعمه، اللقمة هنية والغموس شهي والكلام راحة، مشيرا إلى أنه حين كان صغيرا كان يسمع صوت أمه وهي تدعو الله طالبة منه البركة، ولما كبر عرف أن البركة في الرزق أهم من سعته، البركة التي تجعل القليل كثيرا يكفي ويفيض، مدركا سر دعوة أمه بحلول البركة في بيتهم. هنا يستعيد الفخراني ذكرياته في بيتهم القديم، حيث كانت البهجة تتجلى فيه صباح كل جمعة مع رائحة البخور، وطبق الفول وقرطاس الفلافل والمعصفر، وأهرام الجمعة وخليط من أصوات تحمل ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، تأتي من راديوهات البيوت، فيبدو كل شيء كنغم متكامل ومريح، ذاكرا أن البيوت في السبعينيات كانت متشابهة في الباب نفسه والشراعة المصنوعة بيد حداد شاطر على شكل أقرب إلى زهرة اللوتس، والصالون الفرنسي نفسه المغطى بكسوة بيضاء محكمة، مثلما يرى أن الطريق الجديد هو فكرة جديدة مختلفة، ما زالت نقية بسيطة لم تُمهد بعد، وأن كل قصص النجاح العظيمة بدأت بفكرة جديدة، وكل أصحاب الحكايات الكبيرة كانت البدايات فكرة آمنوا بها وأحبوها وصبروا عليها، قائلا إن الكسالى دائما ما يختارون الأسهل، ويمشون في الطريق نفسه الذي سبقهم الآلاف فيه ويقفون في الطابور الطويل نفسه، ينتظرون بقايا فرصة، ذاكرا أنه حين نجد فكرة ونؤمن بها، فلا بد أن ندفع الثمن لنجعلها تتحول من فكرة إلى واقع، ومن خيال إلى حياة.
الحياة تنادي عشاقها
هنا يدعو الفخراني قارئه إلى أن يجذب إليه كل ما هو جميل، أن يجعل قانون الجاذبية للسعادة والحب والخير والنجاح والصحة والسفر والأحلام التي لا تنتهي، رافضا أن يموت الإنسان وهو يتنفس، أن يسكت وهو قادر على الغناء، أن يفشل وهو قصة حب كبيرة، مؤكدا أن البيت هو النعمة الجميلة في حياة البشر، وهو أول ما صنعه آدم عليه السلام على الأرض، لكي يحميه من وحشة الحياة وصعوباتها ولكي ينام فيه آمنا، متسائلا هل نفدت من أفواهنا الكلمات الطيبة؟ هل جف القلب عن ابتكار حروف طيبة بريئة تصبح رسولا بين القلوب؟ هل أصبحنا كسالى عن تبادل كلمات طيبة، أم بخلاء في الكلمة الطيبة؟ مشيرا إلى أن الحياة تنادي عشاقها للحياة، لمناحي ما فيها من جمال وبهجة ونهار مُرزق، ومن يرغب في النجاح لا ينتظر الغد، إنما يبحر مع أول ضوء لشمس اليوم، وأنه من الرائع أن يكون الإنسان نجمة في قلوب من يحبهم. الفخراني الذي يقول، إن الفقر ليس مرادفا للقبح، والعشوائية لا تولد من رحم الفقر، يرى كذلك أن الجمال فكرة رقيقة نتبادلها لتبقى وتكبر وتتحول إلى واقع موجود في كل التفاصيل، من كلمة جميلة إلى تصرف جميل إلى ذوق نبيل، مشيرا إلى أن الجمال إذا بدأ بقوة انتشر وبسط نفوذه على كل الأشياء التي تشكل لوحة حياتنا، مؤكدا أن الجمال يجب أن يبدأ من البيت، فهو أسلوب حياة وثقافة وعادات وأصول وطقوس، مبديا حزنه إذْ تم تشويه معاني الجمال وقواعده بطريقة منظمة ومتعمدة زمنا بعد زمن، لافتا الانتباه إلى أننا لا بد أن نفرش بيوتنا بالتفاصيل الإنسانية، وكلمات المحبة قبل أن نفرشها بالأغلى والأكثر: لا تذهب بعيدا كي تبحث عن السعادة، ادخل بيتك واملأ كل زاوية فيه بهجة وحبا واجعله مخبأ سريّا من هموم وصخب الحياة.
التكنولوجيا تربح المعركة
هنا أيضا يكتب الفخراني قائلا، إن المستقبل ليس بحاجة إلى مكتب خانق يجلس إليه الموظف ليؤدي مهام محددة في روتين يومي، بل في احتياج إلى مبتكرين يصنعون أفكارا جديدة مميزة تجعل الحياة أفضل، ذاكرا أن وظيفة الغد ليس لها مواعيد ودفتر حضور وانصراف، الغد لمن يعمل وقتا أقل وجودة أعلى، لمن يطور في عمله ولا يستمر بالأفكار نفسها كل يوم، مشيرا إلى أن الحياة تتطور بسرعة مذهلة، وما كنا نتصوره الأفضل أصبح منتهي الصلاحية، وعلينا أن نسبق الزمن بخطوة كي لا نسقط في حفرة عميقة لا خروج منها، مؤكدا أيضا أن التكنولوجيا تربح المعركة وتنتصر في المستقبل القريب أكثر وأكثر. أيضا هنا يقول الفخراني، إن الحلم هو الذي يحول الألم إلى أمل، والمرض إلى شفاء، والخوف إلى أمان، والأرض البور إلى جنة، ذاكرا أنه في البدء كان الحلم، وأننا دون حلم لن نستطيع أن نصنع حياة مبهجة، ذاكرا أنه بزراعة وردة واحدة يمكننا تغيير العالم، متسائلا ما فائدة الشمس التي تشرق كل صباح، إذا لم نبدأ بها يوما جديدا في الحياة، مشيرا إلى أن الأزمات تقتل الضعفاء، لكنها تضاعف قوة الأقوياء، ولا وقت للموت، إذ هناك ألف سبب للحياة، ناصحا إيانا ألا ننكسر، فالحياة فيها ما يستحق أن نرفع رأسنا من أجله، وليس علينا أن نجعل عتمة تغلق عيوننا عنه. في كتابه «حلت البركة» الذي يكتب فيه يسري الفخراني عن سيرة الآباء الطيبيين، الأيام التي لم تعد معنا، مصنع الشكولاتة، سُفرة رمضان، الحياة من زاوية لا يتوقعها أحد، العودة إلى غرفة المعيشة، كابتشينو في محطة الرمل، امرأة في قفص زجاج، عن دراويش ونبلاء وعابري سبيل، يقول إن كل شيء يأتي ويذهب من بين أيدينا، إلا الذكريات المحفورة كنهر دافئ متدفق يجري بين أيامنا.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب