الفن التشكيلي والمجتمع.. شراكة تصنع الإبداع

الفن التشكيلي والمجتمع.. شراكة تصنع الإبداع
يقول الفنان أحمد كنعان إن “تعليم الأطفال كيفية التعبير عن أنفسهم باستخدام الألوان والورق يمنحهم مساحة آمنة للتعبير عن مشاعرهم، ما يقلل من احتمال اللجوء إلى العنف”.
في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم، والتحديات التي تواجه مجتمعنا العربي، تزداد الحاجة إلى دمج الفن في حياة الأفراد، وجعله جزءًا أساسيًا من العملية التربوية والثقافية.
هنا تبرز أهمية بناء شراكة حقيقية بين الفنانين والمدارس والمعارض الفنية، بحيث لا يبقى الفن محصورًا بين جدران القاعات، بل يصبح جزءًا من الحياة اليومية، يؤثر ويتأثر، يلهم ويناقش، ويخلق بيئة تُنمي الإبداع والفكر النقدي لدى الأجيال الصاعدة.
في صالة العنقود للفن التشكيلي في طمرة، والتي تضم معارض فنية ثابتة وأخرى متنقلة من إنتاج جمعية “تل كيسان”، وتنظيم الفنان أحمد كنعان، يتنقل الطلاب بين لوحات معرض “رتق الذكريات”، يتأملون الألوان والخطوط، يقترب أحدهم من لوحة تجريدية، يحاول فك رموزها، بينما يسأل آخر كيف يمكن للخطوط والظلال أن تروي قصة دون كلمات. مشهد كهذا يكشف أهمية الفن ليس كوسيلة ترفيهية فحسب، بل كأداة لفهم الذات والتعبير عن المشاعر والانفعالات، عبر بناء شراكة حقيقية بينهم وبين المؤسسات التعليمية والمعارض الفنية.
السؤال كيف يمكن للفن أن يتجاوز حدود القاعات المغلقة ليصبح جزءًا من الحياة اليومية، وما هو تأثير هذه الشراكة على الطلاب والمجتمع؟ للإجابة عن هذه التساؤلات، استطلعنا آراء عدد من الفنانين التشكيليين، الذين تحدثوا عن دور الفن كنافذة للطلاب لاكتشاف العالم وأداة فعالة للحوار والتغيير.
الفن التشكيلي كوسيلة للحد من العنف
يعزز الفن التشكيلي حرية التعبير، ويلعب دورًا مهمًا في بناء شخصيات الأطفال والفتيان، مما ينعكس على سلوكهم الاجتماعي.
يقول الفنان أحمد كنعان لـ”عرب 48” إن “تعليم الأطفال كيفية التعبير عن أنفسهم باستخدام الألوان والورق يمنحهم مساحة آمنة للتعبير عن مشاعرهم، ما يقلل من احتمال اللجوء إلى العنف. من النادر أن تجد رسامًا أو موسيقيًا عنيفًا، لأن الفن يرتبط بالحوار، التأمل، والإحساس”.
ويؤكد أن الفنان دائمًا يتفاعل مع الواقع المحيط به، ويحوّل مشاعره وأفكاره إلى أعمال فنية تحمل رسالة، “كل ما نراه ونشعر به يمكن أن يتحول إلى عمل فني يحمل معنى عميقًا، سواء كان ذلك من خلال تصوير قضايا اجتماعية أو التعبير عن مشاعر ذاتية، فإن الفن يمنحنا مساحة للتفكير والتفاعل بطرق غير تقليدية”.
المعارض الفنية.. مساحات تفاعلية للحوار والتعبير
يوصي الفنان كنعان بتعزيز النشاطات بين الفنانين وأبناء المجتمع من مختلف الفئات وخاصة الطلاب، “تسعى صالة العنقود للفن التشكيلي في طمرة إلى جعل الفن جزءًا من المشهد اليومي. نستقبل طلابًا من عدة مدارس وخاصة خلال برنامج آذار الثقافة في المدينة، حيث يتاح للطلاب استكشاف المعارض المتنوعة. حاليًا، يضم المكان معرضًا جماعيًا يشارك فيه عشرة فنانين، إلى جانب معارض ثابتة من أعمال سابقة. الهدف هو خلق بيئة تفاعلية تدمج الفن بالحياة اليومية”.
ويضيف أ “اختيار موقع المعرض في مبنى يضم أنشطة متنوعة مثل المسرح، السينما، والمختبرات العلمية، يمنحنا فرصة للوصول إلى جمهور أوسع، فبدلًا من أن يكون الفن حكرًا على المهتمين به، يصبح متاحًا للجميع، سواء قصدوا زيارته أم صادفوه خلال تواجدهم في المبنى”.
الفن نافذة لاكتشاف الذات وبناء المستقبل
ترى الفنانة سائدة كنعان من طمرة أن الفن ليس مجرد موهبة فطرية، بل يمكن تعلمه وتطويره كما هو الحال مع الرياضيات أو اللغات.
تقول كنعان لـ”عرب 48” إن “كثيرين من الطلاب يعتقدون أنهم غير موهوبين، لكن بمجرد أن يبدأوا تعلم أساسيات الفن يدركوا أنه مهارة يمكن تطويرها. بعضهم يمتلك موهبة طبيعية، لكن هناك آخرين تعلموا الفن وأصبحوا فنانين مبدعين بأعمالهم الفريدة والمتميزة”.
وترى أن تقديم الفن في المدارس لا يقتصر على تعليم التقنيات، بل يمنح الطلاب فرصة لاكتشاف شغفهم، وربما تحديد مسارهم المهني. وتضيف أنه “في المدارس التكنولوجية، يواجه بعض الطلاب صعوبة في التفاعل مع المناهج الأكاديمية، وهنا يصبح الفن وسيلة لاحتوائهم، تمامًا كما تحتضن الأم طفلها، فالفن يعزز الجانب العاطفي والنفسي لديهم، ويمنحهم إحساسًا بالانتماء والتقدير”.
الأثر الحقيقي للفن لا يظهر إلا عندما يبدأ الطلاب في إنتاج أعمالهم الخاصة، هنا تشير كنعان إلى لحظة التحول قائلة إنه “عندما يُطلب من كل طالب تنفيذ مشروع فني في نهاية مسيرته التعليمية، يبدأ الكثيرون بالتشكك حول قدراتهم، لكن بمجرد أن يضعوا أول لمسة، تتحول هذه الشكوك إلى شغف. رأيت أعمالًا لا يمكن نسيانها، ولمست كيف يشعر الطلاب بالفخر والراحة عندما يشاهدون نتاج إبداعهم، حيث تعكس أعمالهم شخصياتهم وأسلوبهم الفريد”.
التكنولوجيا والفن.. صراع أم تكامل؟
في عصر تسيطر فيه الشاشات على حياة الأطفال، أصبح من الضروري إيجاد توازن بين التكنولوجيا والفنون التقليدية. وتوضح كنعان أن “التكنولوجيا سلاح ذو حدين، يمكن أن تكون وسيلة تعليمية رائعة، لكنها قد تكون أيضًا عاملًا مدمرًا إذا لم تُستخدم بشكل صحيح. وهنا يأتي دورنا في توجيه الأطفال لاستخدامها بشكل إيجابي، مع توفير بدائل مثل الرسم والنحت، والتي تمنحهم تجربة حسية حقيقية”.
وتشير كنعان إلى مشكلة يواجهها العديد من الأطفال بسبب الاعتماد المفرط على الأجهزة الرقمية، “كثيرًا ما أسمع من الأمهات عن أطفال يعانون صعوبة الإمساك بالقلم، إما أنهم يشدون عليه بقوة زائدة أو لا يستطيعون التحكم به جيدًا بسبب قلة الممارسة اليدوية. كما يعاني بعضهم ضعفا في عضلات اليد وآلاما في الظهر والعينين نتيجة الجلوس الطويل أمام الشاشات. لذلك، إشراكهم في أنشطة فنية يومية لا يحميهم فقط من التأثيرات السلبية للتكنولوجيا، بل يعزز تركيزهم وثقتهم بأنفسهم”.
الفن التشكيلي.. جسر للحوار والتساؤل
قال أحد المشاركين في معرض “رتق الذكريات”، في صالة العروض بطمرة، الفنان عبد الله مريح، لـ”عرب 48“، إن “الطلاب يتفاعلون مباشرة مع الفنانين المشاركين في زياراتهم للمعارض الفنية، مما أتاح لهم فرصة نادرة لفهم العمل الفني من منظور صانعيه”.
وعن أهمية هذه التجربة يقول إن “الفن التشكيلي ليس مجرد عرض للوحات ومنحوتات، بل هو لغة خاصة يعبر بها الفنان عن مشاعره وأفكاره، وينقل من خلالها قصصًا مستوحاة من الواقع الاجتماعي. كل لون يحمل معنى، وكل تفصيل يخفي قصة، ما يجعل الفن أداة قوية للحوار والتفاعل”.
ويختم مريح حديثه بالقول إنه “عندما يتفاعل الطلاب مع الأعمال الفنية، لا يكتفون بالمشاهدة، بل يطرحون الأسئلة وتحليل التفاصيل، وهذا يفتح لهم أفقًا جديدًا للتفكير والنقد”.