
التباسات تعريب المفاهيم السردية

نادية هناوي
أطلق تزفيتان تودوروف مصطلح (العجيب) عام 1970 في إطار التنظير لما هو فانتاستيكي، وحدده بأنه نص قصصي ترد فيه أحداث أو ظواهر خارقة لا يمكن تفسيرها عقليا، ولكن حين يثبت لدى القارئ أن بالإمكان وجود قوانين طبيعية تقبل الظاهرة الخارقة، يكون الخلاص من التردد متحققا، فيتلاشى الفانتاستيكي.
استنادا إلى هذا الطرح، عرَّب معجم السرديات 2010 مفردة فوق الطبيعي (supernatural أو surnatural) بالخارق، وحدد استعمالها في نوعين من السرد: هما العجيب والغريب؛ ولا يسبب العجيب هلعا بالضرورة وإن كان خارقا للمألوف. أما الغريب فمدعاة للهلع، لأن خارقيته لا يمكن تفسيرها لكنه مع ذلك قريب من الواقع ونتاج اللغة.
وبهذا لا تكون مخالفة السرد للقوانين الطبيعية أمرا يثير قلقا أو هلعا، لأن اللغة كفيلة بأن تجعل الخارق غير خارق، ومن ثم لا يتعدى الخارق أن يكون مجرد اشتغال لغوي مهمته الترميز (فالشيطان ومصاصو الدماء لا وجود لهم إلا في كلمات اللغة وحدها وهي التي تقرِّب البعيد أي الخارق من الأذهان.. وبذلك يصبح هذا الخارق رمزا لغويا شأنه شأن الصور البلاغية، فالصور متى تجسدت بالكلمات كانت أقرب إلى الواقع مأخوذا في حرفيته) (معجم السرديات). وليس من دور للقارئ سوى تلقي الحدث الخارق ليقوم بإرجاعه إلى ممارسة سابقة (كان يا ما كان في قديم الزمان). بيد أن مصطلح غير الطبيعي (Un-Natural) لا يعني الخارق لوحده، لأن انتهاك القوانين الطبيعية مقصود لذاته وليس مجرد حلية لغوية بحتة أو اشتغال أسلوبي فيه (الخارق) يعمل عمل التشبيهات والاستعارات. وهذا ما يجعل (غير الطبيعي) بالضرورة مضادا لما هو (طبيعي)، أيا كانت صفته اللاطبيعية، كأن يكون تخريفا أو ما وراء تخييل أو حكاية خرافية أو خيالية.
وبالطبع لم ينص تودوروف على اللاطبيعية، لأنه يرى أن فعل الخرق يبقى في المبتدأ والمنتهى جزءا من واقعية النص، وفي إطار المحاكاة الأرسطية. وهذا ما لا تقرّ به السرديات ما بعد الكلاسيكية، بل إنها وجدت في ما أرجأ تودوروف التعامل معه، أو وقف منه موقف المتحير طريقا لتنظيرات جديدة. ولقد اتخذ النقاد الأنكلوأمريكيون من مدرسة شيكاغو مرجعا واستطاعوا النفاذ من خلال ذلك إلى كثير من ثغرات النقد البنيوي، وما بعد البنيوي، فوقفوا على مصطلح (غير الطبيعي) وتمكنوا من توليد علم السرد غير الطبيعي.
وعلى الرغم مما توصلوا إليه من كشوفات في هذا المجال، فإنها لم تحل كل الإشكاليات، إذ ما تزال في علم السرد غير الطبيعي مواضع اشتغال ملتبسة لم يحسم القول فيها بعد. ومن ذلك مسألتان: الأولى استعمال مسمى metalepsis والثانية استعمال ضمير المخاطب. ونبدأ بـ metalepsis وهو مصطلح اجترحه جيرار جينيت، وحدد دلالته لكنه ظل مترددا إزاءه، تاركا الباب مفتوحا للمنظرين ما بعد الكلاسيكيين، كي يقولوا قولتهم في هذا المسمى ومتعلقاته، ومنها paralipsis .
وقد عرَّب معجم السرديات 2010 مصطلح metalepsis بـ(الانصراف) وحدد عمله كالآتي: (المرور من مستوى سردي إلى آخر، لا يمكن مبدئيا أن يضمنه إلا السرد. وهو فعل يقوم بالضبط على إدخال معرفة في وضع آخر بواسطة الخطاب، وكل شكل آخر من العبور إن لم يكن مستحيلا فهو انتهاكي دوما). وما يؤخذ على هذا التعريب أنه ينطلق من الفهم ذاته الذي ينطلق منه تعريب (الخارق) لدى تودوروف، أي النظر إلى المصطلح من زاوية المعنى البلاغي، أي الالتفات عبر الانتقال من الخبر إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الخبر، أو بالمعنى الأصولي وهو انصراف الذهن من اللفظ الى بعض مصاديق معناه، أو بعض أصنافه مما يقع بين التقييد والإطلاق. غير أن هناك فاعليات أخرى كالانتهاك والعبور والمرور والإدخال وهي تتجاوز فاعلية (الانصراف) وتتعداها إلى الاستبدال. فإذا كان الانصراف تحويل الحال إلى حال كان حاصلا، فإن الاستبدال هو الانتقال من حال هو غير حاصل إلى حال يراد له أن يكون حاصلا. ومن ثم لا وجود لتقييد سابق يَفرض على الكاتب أن يسيِّر أفعال شخصياته وأقوالها وفقه، إنما هي الحرية في الاستبدال من دون قيد التصريف أو الالتفات.
بهذا يكون توظيف الاستبدال غير محدد الاستعمال كما في رواية (نار شاحبة) لنابوكوف، إذ تتغير مستويات السرد بتغير مواقع من يتكلم (المؤلف / السارد/ المسرود) فالمؤلف خارجي ويتحدث عن مخطوطة لقصيدة ملحمية عنوانها (نار شاحبة) كان قد عثر عليها صدفة، وعليه أن يقوم بتحقيقها. فيتولد لبس حول من يتكلم. وهنا يكون لمصطلح paralipsis أهميته، وقد عرَّبه معجم السرديات بالحجب، وحدده كالاتي: (الثغرات التي تتصل بمعلومة لها علاقة بالحكاية لا تعلن عنها القصة إلا لاحقا، من ذلك مثلا ذكر أحدهم طفولته وإخفاؤه أن له أخا، فالقصة في هذه الحال لا تقفز على مرحلة بعينها، بل هي تجانب معطى من المعطيات.. والحجب ثاني اثنين يكوِّنان التعبير. ويعني به الخرق الإرادي الحاصل بسبب امتناع الراوي في إطار التبئير الداخلي عن تقديم معلومة مهمة يقتضيها هذا النمط من التبئير، والمقصود بالمعلومة ما تفعله الشخصية، أو تفكر فيه مما لا يسعها هي ولا الراوي جهله لكن الراوي يختار عمدا إخفاء هذه المعلومة عن المروي له).
ويعيدنا هذا التحديد إلى المربع الأول الذي فيه (الخارق) محدد بالمستويات البلاغية كاستعارات وتشبيهات. ولو كان الأمر كذلك لما كان للسرد من ميزة على الشعر، ولما كان للرواية أن تتفرد في قالبها الأجناسي على سواها من الأجناس والأنواع الأدبية، بل الكل سواسية حيث الكتابة الأدبية هي مجموعة أساليب بلاغية، فيها الدال يتضمن مدلولين؛ أحدهما ينزاح عن الآخر لأن المدلول الأول نحوي مباشر، والمدلول الثاني بلاغي غير مباشر هو معنى المعنى.
وحقيقة الأمر أن جينيت ما كان ليتصدى لمصطلحي metalepsis
وparalipsis إلا في خضم مناقشاته لملابسات السرد بضمير المخاطب. وهذه هي المسألة الثانية التي حولها تدور هذه السطور. وواحد من تلك الملابسات استعمال الحوار الذي فيه يتفاعل صوتان أحدهما متكلم والآخر سامع، وقد أدرج باختين ونقاد المدرسة الفرنسية الحوار والحوارية، تحت باب (الخطاب) بوصفه ظاهرة لغوية ملازمة للراوية في كل عصورها. وهو على أنواع؛ فثمة الحوار الداخلي وهو إنشائي، تجتمع فيه اللغات والأصوات المتعددة وثمة الخطاب المباشر وهو مستقل عن خطاب السارد من الناحية التلفظية وهناك الخطاب غير المباشر ويرجع إلى قائل واحد هو السارد الذي يقول ما تريده الشخصية، وثمة خطاب من خارج الحكاية ويعني كلام المؤلف عن الحكاية التي هو بصدد روايتها كالتعليق على الاحداث مثلا، أو الحديث عن كيفيات سرده هذه الأحداث. وثمة الخطاب الحكائي وفيه يتولى السارد قص وقائع الحكاية وأطوارها، من دون التدخل في عالمها الداخلي، وثمة ما بعد الخطاب، وهو يقتضي أن يتكلم السارد عن عملية سرده، أي عن الخطاب الذي ينجزه وكيفيات صياغته.
ولا نجد في أنواع الخطاب، آنفة الذكر، أي إشارة إلى ضمير المخاطب بشكله الدال والمباشر، وبذلك تنوسي مصطلحا Metalepsisو Paralipsis . وهو ما وجد فيه نقاد السرد ما بعد الكلاسيكي ثغرة كبيرة تسمح بالنفاذ من خلال ضمير المخاطب، ففيه تكون مستويات السرد في حالة استبدال، كأن تخرج الشخصية من عالمها وتقتحم عالما آخر غير مؤطر في قصتها، أو يخرج المؤلف من كتاب تقرأه الشخصية ليتحاور معها بوصفها قارئة، تشاركه الأقوال والأفعال وتؤثر فيه أو يؤثر فيها. ومن ذلك أيضا حديث الشخصية عن مؤلفها الذي أنشاها بقصد كشف خبايا التأليف. ويمكن لاستعمال السرد بضمير المخاطب أن يفرز حالات أخرى أكثر تعقيدا وإشكالية، توهم القارئ وتجعله يشترك في حالة الزيف والمراوغة ما بين الشخصية والسارد والمؤلف والمسرود له والقارئ الضمني.
ولو أن جيرار جينيت واصل اهتمامه بضمير المخاطب وأولاه عناية تماثل عنايته بضمير المتكلم لاستطاع أن يغالب المعطيات الباختينية حول مصطلح الخطاب، غير أنه اكتفى بالتركيز على ضمير المتكلم، فشعر بدوخة الضمائر المسندة إلى ما هو منطقي وغير منطقي. ومثاله على ذلك قصص بورخيس بسبب ما فيها من خرق يتولد من استبدال الضمائر وبأوضاع سردية مختلفة.
وهذا ما نجد أمثلته واضحة في المرويات التراثية التي فيها (الحكاء) عنصر رئيس يقف ما بين المؤلف والسارد، ما يجعل المسافة بينهما طبيعية، لأن الحكّاء هو الواسطة، التي بها يتملص المؤلف من أي تبعة يمكن للتخييل السردي أن يلصقها به، وفي الآن نفسه يتمكن من إحلال السارد محله بشكل منطقي. وقد ساهم وجود الحكاء في تطوير أساليب التخاطب الأدبي، وعكس فاعلية المخاطبة وأهميتها في البناء السردي. من هنا استعاد بورخيس تقاليد السرد العربي القديم، فكان من الطبيعي أن يقع على تقانة الاستبدال، التي بها كان الكاتب القديم يخاطب قراءه مباشرة، أو يتحاور مجازيا – بوصفه حكّاء- مع السارد أو يتخاطب – بوصفه ساردا- مع الشخصية. ومن دون وجود الحكاء يغدو المخاطِب منتهكا عالم الشخصية التي إليها يوجّه كلامه، فما من مقدمات ولا شروح تعرِّف القارئ بهذه الاستبدالات، التي حولها يدور السرد أو بحقيقة هذا الذي يتكلم وهو مجهول الهوية.
مؤدى القول إن من الضروري إعادة النظر في تعريباتنا السردية، وأن يكون ذلك في ضوء مستجدات النظريات السردية، فلا ندرج غير الطبيعي تحت باب الترميز متعاملين معه بوصفه مجازات، لأننا بذلك لا نؤشر على إبداعية أو ابتكارية الاستعمال السردي. وهذا هو الذي وضع المنظرون الأنكلو أمريكيون أيديهم عليه، فتمكنوا من سد ثغرات كبيرة تركها السرد البنيوي وما بعد البنيوي. فأكدوا براعتهم وربما تفوقهم على المنظرين الكلاسيكيين، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة؛ إذ قطعوا أشواطا مهمة. ولا نجد صدى لكشوفاتهم في نقدنا العربي المعاصر عامة، ومعاجمنا النقدية خاصة، وفي مقدمتها معجم السرديات الذي انطلق في تعريباته جميعها من مرجعيات السرديات الكلاسيكية، التي إليها يطمئن نقاد المغرب العربي بالعموم، في حين أن نقاد المشرق العربي استطاعوا منذ مدة غير قليلة الارتكان إلى مرجعيات أخرى بضمنها الفرنسية. وكان للدراسات الثقافية الأنكلوأمريكية حصة الأسد في ذلك.
وتبقى الحاجة ملحة إلى أن يتعامل نقدنا العربي تعاملا جادا مع علوم السرد ما بعد الكلاسيكي بكل ما يتعلق بها من مسالك ومنظورات، لاسيما في مجال التعدد الاختصاصي.. وسيساعد الانفتاح والتوسيع على مستوى المرجعيات، أو الحواضن في أن يتلافى النقد العربي هذا القصور فلا يتأخر عن ركب الفكر السردي العالمي. وأول ما ينبغي العمل عليه هو توحيد المصطلحات عبر مراجعة الجهاز المفاهيمي الذي تتضمنه معاجم السرديات وقواميس النقد والأدب.
كاتبة عراقية