
الأوركسترا الشعرية: سيمفونية التأمل في قصيدة «في حضرة الموسيقى»

ناظم ناصر القريشي
تعد قصيدة «في حضرة الموسيقى» للشاعر أسامة تاج السر تأملاً فلسفياً وجمالياً في الموسيقى، باعتبارها جوهراً للوجود وطريقة لتفسير الكون، تنساب القصيدة بإيقاع خاص يحاكي تجربتها الداخلية، حيث تتقاطع فيها الروحانية مع الحس الإبداعي، مستحضرة صورا رمزية تعكس رؤية الشاعر لمكانة الموسيقى في الوجود الإنساني والكوني، فهي ليست مجرد احتفاء بالموسيقى، بل هي أوركسترا شعرية، يقودها الشاعر كمايسترو بارع، ليدخلنا في تجربة لا نسمع فيها الموسيقى فقط، بل نحياها بكل حواسنا، إنها تجربة روحية، تجعل الموسيقى لغة للصلاة، وللوجد، وللحياة ذاتها
البناء اللغوي للقصيدة
تتميز قصيدة «في حضرة الموسيقى» بأسلوبها الفريد الذي يمزج بين الشعرية التأملية والتكثيف اللغوي العميق. ومن خلال تحليل البناء اللغوي للنص، يمكننا رصد مجموعة من الخصائص التي تجعل هذه القصيدة متميزة على المستوى الفني والجمالي:
البنية الإيقاعية والتوزيع الموسيقي
من المفارقة الجميلة أن تكون القصيدة عن الموسيقى، وفي الوقت ذاته تكون هي نفسها قطعة موسيقية متكاملة، على مستوى الإيقاع والتنغيم. يعتمد الشاعر على التكرار (الكونُ موسيقى، الموسيقى من الشيطان، أيّتها الموسيقى)، مما يخلق نسقاً صوتياً متناغماً يعزز الإحساس بالموسيقى داخل النص نفسه. كما تتسم الجمل بتنوع أطوالها، فتجد جملاً قصيرة مكثفة مثل: «الكونُ كلُّه موسيقى» «الموسيقى من الشيطان» «أيّتها الموسيقى» ما يمنح النص إيقاعاً خاصاً يتفاوت بين المد والجزر، كأن الشاعر نفسه يعزف على آلة موسيقية من الكلمات.
التصوير والاستعارات والمجازات
يعتمد الشاعر على استعارات مبتكرة ومجازات غير مألوفة، تمنح النص عمقاً تأملياً. فعلى سبيل المثال، يقول: «هي إنترنت العوالم الخفيّة» هنا يستخدم الشاعر مصطلحاً حديثاً «الإنترنت» في سياق روحي وفلسفي، ليخلق مفارقة تعبر عن شمولية الموسيقى وكونها وسيلة اتصال بين العوالم.
كما نجد صورة شاعرية عميقة حين يصف عازف الناي: «فعازفه مصابٌ بلسعة الهمس» «كأنّه يُقطّر أنفاسه كنشوة من يرتشف سيجارة في الشتاء» هذه الصورة تقدم الناي كأداة هامسة للروح، وتمنح العازف هالة من الرقة والانفعال العاطفي.
الرمزية والتكثيف الدلالي
يعتمد الشاعر على الرموز والإيحاءات العميقة، حيث لا يتحدث عن الموسيقى باعتبارها مجرد فن، بل يجعلها رمزاً للكون والحكمة الإلهية: وأنا آلةٌ يضربني القدرُ بحكمته فأئن، وأهذي، وأبكي، وأضحك فترفرف مني الموسيقى الخاشعة». هنا يجعل الشاعر نفسه آلة موسيقية في يد القدر، مما يحوّل التجربة الإنسانية إلى معزوفة إلهية تخضع لمشيئة الكون.
البناء الصوري في القصيدة
يعد البناء الصوري أحد أهم عناصر هذه القصيدة، حيث يعتمد الشاعر على تشكيل مشهديات متكاملة باستخدام الصور الحسية، والاستعارات، والتشبيهات، ما يجعل النص لوحة متحركة تمتزج فيها الموسيقى بالمشاعر والوجود. يمكن تحليل البناء الصوري من خلال العناصر التالية:
الصورة الكلية واللوحة البصرية – السمعية
تتسم القصيدة بأنها لوحة متكاملة مرسومة بالكلمات، حيث يدمج الشاعر بين الصوت، والحركة، والإحساس، ما يجعلنا نرى ونسمع الموسيقى، كما لو كنا نعيش داخلها: الكونُ أوركسترا مكتملةٌ، وخلفها عازفون مهرةً لا نراهم، ولكنّا منغمسون في سطوتهم التي ينعت في هذه الآلات» هنا يقدم الشاعر صورة كونية تجعل من الموسيقى جوهراً للوجود، مستخدماً تقنية التشخيص عبر تصوير الكون كفرقة موسيقية لها عازفون خفيون.
الصورة الصوتية والموسيقية
كون القصيدة عن الموسيقى، فإن الشاعر يعكس هذه الفكرة بصور صوتية تنقل الإحساس بالإيقاع والتناغم: «الكون موسيقى وأنا آلةٌ يضربني القدرُ بحكمته فأئن، وأهذي، وأبكي، وأضحك فترفرف مني الموسيقى الخاشعة». في هذه الصورة، يستخدم التشبيه الضمني ليجعل من الإنسان آلة موسيقية تتجاوب مع القدر، حيث يتحول الألم والفرح إلى أصوات موسيقية، ما يعزز التفاعل بين الوجود والموسيقى.
الصورة الحركية (الديناميكية)
يعتمد الشاعر على حركة داخل الصورة الشعرية، ما يجعل المشهد يتغير ويتطور، وكأن الكلمات في حد ذاتها تتراقص على أنغام الموسيقى: «كأنّه يُقطّر أنفاسه كنشوة من يرتشف سيجارة في الشتاء، وينفثها نبضةً نبضةً وهو يقطّر فيها روحه المرهقة». هذه الصورة تحتوي على تتابع زمني دقيق، حيث تبدأ بحركة «الارتشاف»، ثم «النفث»، ثم «التقطير»، مما يخلق إحساساً ببطء اللحن وخفته، كما لو أن عازف الناي يستخرج نغماته بحذر شديد.
الصورة الحسية والانفعالية
يعتمد الشاعر على تحفيز الحواس، حيث يشعر القارئ وكأنه يسمع الموسيقى، بل يكاد يلمسها ويتنفسها: «أيّتها الموسيقى، يا صلاة الكون في نفسه، ويا تسبيح الأشياء». هنا تصبح الموسيقى حالة روحية حسية، وكأنها ملموسة ومقدسة، مما يعزز البعد الشعائري في النص.
التشكيل الضوئي والظلال في الصور
يستخدم الشاعر الضوء والظل لتكثيف الأثر الدرامي لبعض الصور: «فعازفه مصابٌ بلسعة الهمس، مشاعره ملائكيّة خجِلة، كأنّه يُقطّر أنفاسه..» الصورة هنا تعتمد على الرقة والهمس والضوء الخافت، حيث يصور العازف ككائن خجول، ويستخدم كلمات مثل «الخجل، التقطير، الهمس» التي تعكس جواً ضوئياً ناعماً ومتلألئاً.
قراءة تشكيلية.. رسم الموسيقى
ترجمة الفنان التشكيلي كاندينسكي الموسيقى إلى لوحات تشكيلية، فهو كان يؤمن بأن للألوان والأشكال تأثيراً مشابهاً للنوتات الموسيقية، فابتكر لوحات تجريدية تعبر عن الإيقاع والتناغم، كما في لوحته (التكوين الثامن) ولوحة (الارتجال)، وعكس الفنان بول كلي معرفته العميقة بالموسيقى في لوحاته، على اعتبار أنه كان موسيقياً قبل أن يكون رساماً، فقد كان يستخدم الألوان والخطوط، كما لو كانت ألحاناً ويظهر ذلك جلياً في لوحته (قافلة الألوان) و(صـوت قـديـم)، لكن راؤول دوفي المفتون بالموسيقى رسمها كمشاهد حية في لوحته (الأوركسترا) ورسم مجموعة من العازفين أثناء الأداء، حيث تتحول الآلات والأجساد إلى ضربات لونية، لا تمثل فقط الآلات الموسيقية، بل تعكس إيقاع الموسيقى وصداها المرئي، وكأننا نسمع الألحان من خلال الألوان، والشاعر أسامة تاج السر في قصيدته «في حضرة الموسيقى»، لا يقدم قصيدة عن الموسيقى فحسب، بل يخلق عملاً فنياً متكاملاً، يتداخل فيه الفن التشكيلي، والموسيقى، ليحملنا في رحلة إبداعية تمتد من الإيقاع إلى الصورة، ومن الصوت إلى اللون، إنها قصيدة تقرأ، وترى، وتسمع، وتشعر، مما يجعلها تجربة فنية كاملة تستحق أن تحفظ في ذاكرة الجمال.
في محاول لخلق توزيع أوركسترالي
تتحول «في حضرة الموسيقى» إلى سيمفونية كاملة، تبدأ بغموض الكون، ثم تتصاعد إلى إيقاع الحياة وصراعاتها، لتصل في النهاية إلى حالة من التسامي الروحي، حيث تصبح الموسيقى صلاة للوجود نفسه
الافتتاحية: موسيقا الغيب والمجهول
«الكونُ كلُّه موسيقى، موسيقى الغيبِ المنثالة من الأقاصي»
تبدأ الأوركسترا بتمهيد هادئ وسماوي، كما لو أننا نقف على أعتاب عالم غير مرئي، حيث تعزف الوتريات المنخفضة (التشيلو والكونترباص) نغمات طويلة وغامضة، تشبه تنفس الكون في صمته الأول. يدخل الفلوت والناي بلحن شفاف، كصوت الرياح المقبلة من المجهول. تضيف القيثارة (الهارب) نقرات خفيفة متناثرة، وكأنها همسات خفية تتردد في الأفق، هذه الافتتاحية تضعنا في حالة من التأمل العميق، حيث تبدأ الموسيقى تكشف عن نفسها ببطء، كما لو كانت أبواب السيمفونية تفتح بهدوء أمام الروح.
الحركة الأولى: الأوركسترا الكونية (إيقاع العوالم الخفية)
«الكونُ أوركسترا مكتملةٌ وخلفها عازفون مهرةً لا نراهم»
يبدأ الكلارينيت والساكسفون بعزف نغمات متقطعة ومتداخلة، تعكس العشوائية المنظمة في الكون، ثم يدخل البيانو بنغمات متفرقة تشبه أصوات النجوم وهي تنبض في الفراغ، ثم إيقاعات الطبول (التيمباني) والدفوف بضربات متباعدة تمثل النبضات الإيقاعية للكون، ثم أصوات الكورال تتداخل مع الأوركسترا، كأنها أصوات كونية بعيدة هنا تصبح الموسيقى أكثر ثراء وتعقيداً، حيث تتناغم الأصوات كما لو كانت أوركسترا كونية تعزف ألحاناً لا نسمعها بأذننا، بل نشعر بها داخل أرواحنا، حيث تخلق الآلات حواراً موسيقياً يذكرنا بأن كل شيء في الكون يخضع لإيقاع سري، حتى لو لم نره.
الحركة الثانية: رقصة الناي ـ مونولوج العازف الحزين
«أنا أشفقُ على عازف الناي… فعازفه مصابٌ بلسعة الهمس»
يبدأ الناي منفرداً بعزف لحن شجي وحالم، كأنفاس حائرة تبحث عن مخرج، مع خلفية ناعمة التشيلو والفيولا تضيف طابعاً من الحزن العميق، ترافقها نبضات متقطعة من الدف الخفيف تشبه ضربات قلب عازف الناي، ليبدأ البيانو في حوار داخلي ينساب كهمسات داخلية تضيف لمسة من الوحدة والحنين، كما لو أن كل نغمة تمثل أنفاسا متعبة تذوب في فضاء الصمت.
الحركة الثالثة: إيقاع القدر ـ الصراع والعاصفة
«وأنا آلةٌ يضربني القدرُ بحكمته فأئن، وأهذي، وأبكي، وأضحك»
في هذه الحركة تبدأ الطبول بضربات قوية تمثل القدر وهو يطرق أبواب المصير، ربما هذا المقطع يذكرنا بافتتاحية السيمفونية الخامسة لبتهوفن (ضربات القدر)، لتبدأ بعد هذه الضربات الأوركسترا الكاملة تتصاعد بعزف درامي يعكس صراع العواطف، كما لو أننا داخل عاصفة موسيقية تعكس صراعات الحياة، فتعزف الكمانات عزفا سريعا في توتر متزايد يشبه العاصفة الداخلية، ثم تعزف بقية الآلات نغمات داكنة تعكس وزن القدر وثقله على الروح.
الحركة الرابعة: صلاة الموسيقى ـ التسامي والختام
«أيّتها الموسيقى يا صلاة الكون في نفسه ويا تسبيح الأشياء»
في هذه الحركة يبدأ الكورال بأصوات بشرية خافتة تشبه تراتيل روحية، ثم يبدأ الأورغن والبيانو عزف نغمات هادئة تشبه الصلاة، ثم ألحان متداخلة للفلوت والكلارينيت تمثل تمازج الروح مع اللحن، وفي تصاعد بطيء للهارب والوتريات تحاكي لحظة السكون والتسامي النهائي، كما لو أنها تصل إلى نقطة من الخشوع التام.
تجربة الشاعر… الأوركسترا الشعرية
تمكن الشاعر أسامة تاج السر في قصيدته «في حضرة الموسيقى « من خلق نص يجعل الموسيقى ليست مجرد موضوع، بل هي أوركسترا شعرية، وتجربة روحية ومعرفية تجسد الجمال الإلهي في الكون، تجعل الموسيقى لغة للصلاة، وللوجد، وللحياة ذاتها، فالقصيدة عمل شعري غني بالموسيقى الداخلية، والتأملات الفلسفية، والرموز العميقة من خلال توظيف الإيقاع، المجاز، التناص، والتساؤل الفلسفي، تجلى فيها البناء الصوري عبر دمج الصوت، الحركة، الحس، والفكر الفلسفي، ما يجعل المتلقي يعيش تجربة بصرية – سمعية كاملة، فالنص ليس مجرد وصف للموسيقى، بل هو مقطوعة موسيقية مصورة، تعكس إحساس الشاعر العميق بالعالم كمعزوفة كونية خالدة.
القصيدة
في حضرة الموسيقى
أسامة تاج السر
الكونُ كلُّه موسيقى
موسيقى الغيبِ المنثالة من الأقاصي
هي هاتفُ الملائكة والشياطين
هي إنترنت العوالم الخفيّة
***
الكونُ أوركسترا مكتملةٌ
وخلفها عازفون مهَرةٌ
لا نراهم،
ولكنّا منغمسون في سطوتهم
التي ينعت في هذه الآلات
***
أنا أشفقُ على عازف الناي،
فوق إشفاقي على نافخ البوق
فالأولُ مصابٌ بلسعة الموسيقى
مشاعره ملائكيّة خجِلة
يُقطّر أنفاسه
بنشوة من يرتشف سيجارةً في الشتاء
وينفثها نبضةً نبضةً
وهو يُقطّر فيها روحه المرهقة
كاتب عراقي