ثقافة وفنون

الثورة الفلسطينية الكبرى في رواية «السِّيح» لمجدي دعيبس

الثورة الفلسطينية الكبرى في رواية «السِّيح» لمجدي دعيبس

موسى إبراهيم أبو رياش

تدور أحداث رواية «السِّيح» لمجدي دعيبس في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، وتسرد قصة مجموعة من الشخصيات، التي تفاعلت مع أحداث الثورة ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني. وترسم صورة للحالة السياسية والاجتماعية والإنسانية في تلك الفترة، ودور المرأة في الثورة، وتأثير الاحتلال على حياة الأفراد والمجتمعات، وتشابك المصائر بين الأردن وفلسطين، في علاقة توحدها الجغرافيا والتاريخ المشترك. توضح الرواية دور الاحتلال الإنكليزي في تسهيل ودعم وتثبيت الاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين، وقمع أي مقاومة فلسطينية بوحشية وأحكام قضائية عسكرية قاسية، ما أدى إلى تفاقم واستمرار الصراع بين الفلسطينيين من جهة، والإنكليز والمستوطنين من جهة أخرى. تعكس الرواية صدى الثورة الفلسطينية الكبرى 1936ـ 1939 التي كانت المحور الرئيسي للرواية، حيث تصوّر معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإنكليزي والاستيطان الصهيوني، وأنَّ الثورة كانت ردَّ فعل طبيعي على الظلم والقمع الذي تعرض له الفلسطينيون، كما تظهر الرواية أنَّ الثورة كانت تحمل آمال الفلسطينيين في التحرر، وتقدم صورة واقعية عن التضحيات التي قدمها الثوار، ولم تغفل أو تسكت عن الخيانات والصراعات الداخلية، ما أدى إلى تشتت الثورة وتوقفها أحيانا، بالإضافة إلى التدخلات العربية لوأدها.

شخصيات الرواية الرئيسية

كثيرة هي الشخصيات المؤثرة والفاعلة في الرواية، ولكن ثمة شخصيات أكثر التصاقا بأحداث الرواية من غيرها، وهي بهيجة وسند ومقبول ولطفي وتركية. حيث تمثل بهيجة نموذجا للمرأة الفلسطينية القوية التي تتحدى الأدوار التقليدية، وتلعب دورا فعّالا في النضال الوطني، وتشارك في الثورة ضد الاحتلال. كما أنها تعيش صراعاتها الخاصة بين التقاليد ودورها في الثورة، ما يجعلها شخصية متعددة الأبعاد، وعنصرا فاعلا وشخصية ملهمة في الأحداث.
أما سند فهو شاب من شرق الأردن، يتم اعتقاله بتهمة تهريب السلاح إلى الثوار، ويُحكم عليه بالسجن لمدة طويلة في ظروف قاسية بعد تعذيب وتنكيل، مع أنّه لا علاقة له بأي شيء، وهذا يؤكد أنَّ الكل مُستهدف ومتهم تحت الاحتلال الغاشم. ويرمز اعتقاله إلى معاناة الشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه في مواجهة قوة قمعية لا ترحم، وتسجن لأتفه الأسباب. وكشف سجنه بعض ظروف السجون، وما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم وقسوة، ولكن في المقابل تُظهر صلابة المعتقلين وتمسكهم بقضيتهم، واهتمامهم بالتعليم داخل السجن وتثقيف أنفسهم ومتابعتهم لأخبار الثورة، وعدم رضوخهم للاعتقال، ومحاولتهم للهرب ولو أدى ذلك إلى موتهم.
مقبول شقيق سند الأكبر سنا، يجد نفسه متورطا في الثورة، دون أن يكون لديه أي نية للمشاركة فيها. وهو يمثل الشخص العادي الذي يجد نفسه مُجبرا في خضم الأحداث الكبرى. وتعكس مشاركته في الثورة تأثير الصراع على حياة الأفراد العاديين، حتى أولئك الذين لا يرغبون في المشاركة فيه؛ فالظروف الضاغطة لا تترك خيارا للبقاء على الحياد.
تبرز شخصية لطفي الأردني في الرواية جانبا من العلاقات العاطفية التي تنشأ في ظل ظروف صعبة واختلافات كبيرة؛ فحبه للفتاة تركية وخطفه لها يعكس واقعا اجتماعيا معقدا، حيث تتشابك العاطفة مع العادات الاجتماعية في مجتمع مضطرب. وتشير إلى أنَّ العلاقات الإنسانية لا تعترف بالحدود ولا الجغرافيا، وتلغي المسافات مهما بعدت.
تُعدُّ تركية شخصية محورية ومن أكثر الشخصيات تعقيدا في الرواية، إذ كانت ضحية لحب غير متكافئ، وعاشت صراعا نفسيا حادا بين مشاعرها الشخصية وواقعها المفروض عليها، وعلى الرغم من كونها مجبرة في البداية على البقاء والرضوخ، إلا أنَّ شخصيتها تطورت خلال الرواية لتصبح أكثر انسجاما مع واقعها الجديد. قد يكون هذا التطور انعكاسا لفكرة المرأة التي تجد نفسها مضطرة للتكيف مع بيئة غير مألوفة، خاصة في المجتمعات التقليدية التي لا تمنح النساء حرية واسعة في اتخاذ القرارات. وهي شخصية استطاعت تجاوز محنتها والتكيف مع مصيرها.

العلاقة بين الأردن وفلسطين

تعكس الرواية العلاقة الوثيقة بين الأردن وفلسطين، حيث يتم تصوير منطقة السّيح في جبل عجلون كجزء من النسيج الاجتماعي والثقافي لفلسطين. وتظهر الرواية أنَّ الأردنيين والفلسطينيين كانوا يعيشون في تناغم، وأنَّ الأحداث في فلسطين كانت تؤثر بشكل مباشر على حياة الأردنيين، وأنَّ العلاقة بين الأردن وفلسطين علاقة تكاملية، حيث إنَّ كلا الشعبين كانا يعانيان من التحديات والظروف نفسها، وحياتهما ومصيرهما متشابك ومتداخل وبقوة.
وتظهر الرواية أنَّ النضال الفلسطيني يتجاوز الحدود، إذ أنَّ القضية الفلسطينية ليست قضية محلية، وإنما هي قضية عربية وجزء من الهوية القومية لشعوب المنطقة. وتؤكد هذه الرواية التي كتبها أردني، أنَّ فلسطين وتاريخها الضارب في القدم، وأهلها المكافحين الصابرين المتجذرين، وقضيتها وثوراتها المتعاقبة، ومقاومتها التي لا تتوقف، تبقى معينا لا ينضب للكتابات الإبداعية بمختلف أجناسها، وكل كتابة عن فلسطين نوع من المقاومة والدعم والمساندة لشعب ظُلم وهُجّر وتعرض لأبشع أنواع العدوان والتنكيل والإبادة العرقية.
وقد أولت الرواية اهتماما كبيرا بالمكان، خاصة في فلسطين، فذكرت أسماء عشرات المدن والقرى مثل، حيفا وعكا وصفد وطبريا وجنين وعين غزالة ودير غسانة والعفولة والناصرة وشفا عمرو والجليل الأسفل ومرج ابن عامر والساحل الفلسطيني وبيسان وجبل فقوعة والبشاترة وخربة الزاوية وأم صابونة وزوبعة وعرب البواطي، وغيرها الكثير، وفي شرق الأردن ذكرت الحصن وجبل عجلون وغيرها، وكان التركيز على منطقة «السِّيح» التي تقع جنوب غرب بلدة الحصن في محافظة إربد. وهذا الاهتمام بالمكان مقصود، خاصة وأنّه يتعرض للتهديد والتهويد والطمس والتحريف من قبل الكيان الصهيوني الغاصب منذ وطأت عصاباته أرض فلسطين إلى يومنا هذا.

الحبكة واللغة

يستخدم الكاتب أسلوبا سرديا متوازنا بين الواقعية والتوثيق التاريخي، حيث يعتمد على الأحداث الحقيقية ويعيد تشكيلها بطريقة أدبية. تتطور الحبكة بأسلوب مشوق، إذ تتشابك خيوط الأحداث والشخصيات، ويتم تقديم قصة كل شخصية بشكل متواز مع تطور الأحداث الرئيسية. ويعتمد السرد على الوصف الدقيق للأحداث والمشاعر، وتقدم الرواية صورة شاملة عن الحياة في تلك الفترة، مع التركيز على التفاصيل الصغيرة التي تعكس واقعية الأحداث. وتتميز لغة الرواية بالبساطة والوضوح، وتعكس البيئة الاجتماعية والثقافية للشخصيات، وتستخدم اللهجات المحلية والعبارات الشعبية التي تعكس واقعية الأحداث، والمشاعر الداخلية للشخصيات، ما يعزز البعد الإنساني في الرواية.
وبعد؛ فإنَّ رواية «السِّيح» الصادرة هذا العام في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، جاءت خاتمة لـ«ثلاثية الثورات» للروائي الأردني مجدي دعيبس، التي تتكون أيضا من رواية «الوزر المالح» التي استندت إلى الثورة العربية الكبرى، ورواية «قلعة الدروز» التي اتكأت على الثورة السورية الكبرى. وتُعدُّ «السِّيح» عملا روائيا غنيا بالرموز والتاريخ، تسلط الضوء على تفاصيل دقيقة من حقبة الاحتلال البريطاني والنضال الفلسطيني. من خلال شخصياتها المتنوعة وأحداثها المترابطة، وتعكس قصة شعب يعاني تحت وطأة الاحتلال والاستيطان، وقوته وقدرته على التكيف مع الظروف الصعبة. وتقدم الرواية صورة شاملة عن الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة، مع التركيز على دور المرأة والشباب في النضال الوطني.
وتترك نهاية الرواية القارئ في حالة من التأمل، إذ إنّ النهاية المفتوحة تترك مصير الشخصيات غير محسوم، إشارة إلى حالة عدم اليقين التي عاشها الشعب الفلسطيني في تلك الفترة، حيث كان المستقبل مجهولا وغير مضمون. كما ترمز إلى استمرار المقاومة والنضال، وأنَّ الثورة لم تنتهِ، وما تزال مؤثرة على حياة الأفراد والمجتمعات.

كاتب أردني

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب