
كتاب الناخبون العاديون: هل أصبح التصويت لليمين المتطرف أمراً طبيعياً؟

مقدام البربور
في كتاب الباحث فيليسيان فوري «الناخبون العاديون: تحقيق في تطبيع اليمين المتطرف» الذي نشرته دار «éditions Seuil» في مايو/أيار 2024، يلقي الكاتب الضوء على جزء مهم من النقاشات المعاصرة المتعلقة بأسباب التحوّل في السلوك الانتخابي نحو اليمين في فرنسا. والكاتب فيليسيان فوري عالم اجتماع وسياسة، ومتخصص معترف به في علم الاجتماع السياسي وحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية ثم باحث في ما بعد الدكتوراه في مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وله تحليله الخاص لنتائج التصويت لحزب التجمع الوطني، كما تشمل أعماله منشورات رئيسية، مثل كتاب Sociologie politique du Rassemblement National (2023)، والعديد من المقالات المرجعية حول الديناميات الانتخابية وطبيعة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية والعنصرية والتسييس.. ويوسّع في كتابه الجديد نطاق هذه الأبحاث، ويحلل في دراسته المنطق الاجتماعي والإقليمي الذي أدى إلى تطبيع التصويت لليمين المتطرف في جنوب شرق فرنسا، باعتبارها منطقة ذات رمزية خاصة في هذا المجال السياسي. وقد تم اختيار الكتاب لمقاربته المبتكرة، التي تمكننّا من فهم الديناميات الاجتماعية، المتعلقة بالهوية الكامنة وراء الدعم المتزايد لحزب التجمع الوطني في فرنسا، ولأنه يشكل جزءا من تفكير أوسع نطاقا في العلاقات الاجتماعية وأوجه عدم المساواة والهوية الوطنية.
ولأن مسارات النزاعات السياسية الراهنة، تتسم بصعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا، اعُتبرت أبحاث هذا الكتاب، وثيقة الصلة بالتطرف السياسي وعوامل صعوده بشكل خاص. ويلقي هذا التقرير الضوء على هدف تقديم الكاتب صيغة لتقرير، يتضمن تحليلا نقديا تتضح من خلاله منهجية المؤلف ومساهماته النظرية، عبر التركيز على الأفكار الرئيسية في الكتاب، ودراسة الطريقة التي يوضح بها فيليسيان فوري في كتابه الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تجد تفسيرا لعملية التصويت لليمين المتطرف، من خلال قراءة نقدية، مع الإشارة إلى الأدبيات الموجودة حول هذا الموضوع.
وكما هو واضح فإنني أركز التحليل هنا على ملخص تفصيلي للكتاب لعرض أطروحات المؤلف الرئيسية، بنظرة تأملية نقدية تتعلق بالإسهامات النظرية للكتاب، ولاسيما التحليل السوسيولوجي للديناميات الاجتماعية الكامنة وراء التصويت لليمين المتطرف، ومن دون تجاوز بعض الهنات المنهجية، ذهبت إلى مناقشة نقاط القوة في المنهجية التي استخدمها فيليسيان فوري، التي جعلت كتابه في متناول الجميع، ولاسيما تحليله لأسباب نجاح حزب التجمع الوطني. وهو يوجهه إلى الباحثين وعامة الناس على حد سواء، ويقدم تحليلا اجتماعيا عميقا لاندفاع الناخبين نحو اليمين المتطرف. ومن خلال تصويره لهم كمواطنين عاديين، يدعونا المؤلف إلى التفكير بشكل جماعي في أسباب هذا الصعود ونتائجه.
الكتاب:
ينطوي على 224 صفحة ذات هيكلية واضحة ومتدرجة: تبدأ من مقدمة تتضمن الأسس، ثم يستعرض حججه موزعة على خمسة فصول منفصلة، ثم يختتمها بملخص. في كتاب «منتخبون عاديون»، يحلل المؤلف أسباب التصويت لليمين المتطرف في فرنسا، ولاسيما لصالح التجمع الوطني. ويبحث في الآليات الاجتماعية التي تفسر دعم اليمين المتطرف، مع التركيز بشكل خاص على الناخبين العاديين من الطبقة العاملة والشرائح المتوسطة الدنيا، ويستكشف المؤلف الظواهر الاجتماعية مثل، عدم المساواة الاقتصادية، وأزمة الهوية، ورفض الأقليات، خاصة المهاجرين، التي تكمن وراء هذا التصويت.
الفصول والهيكل :
ـ مقدمة: يحدد فوري القضايا المحيطة بالتصويت لليمين المتطرف، مع التركيز على العوامل الاجتماعية التي تؤثر على الناخبين، ويحلل الكتاب أسباب تصويت الناخبين في جنوب شرق فرنسا لصالح حزب التجمع الوطني. استنادا إلى مقابلات معمقة، يستنتج من خلالها أن التصويت لليمين المتطرف مرتبط بعوامل اجتماعية معقدة، بما في ذلك الشعور بالظلم الاجتماعي والتمثيلات العرقية والتجارب الشخصية. ويشير إلى أن العنصرية رغم كونها عاملا هامشيا، هي في صميم دوافع هؤلاء الناخبين. يؤكد في دراسته أن هذه الخيارات الانتخابية لا تقتصر على ظواهر فردية، بل تتجاوزها لتكون جزءا من ديناميات جماعية وتاريخية. وهو يصل إلى هدفه في فهم الآليات الاجتماعية التي تشجع على صعود اليمين المتطرف وليس الاكتفاء بوصم الأفراد فقط.
ـ الاقتصادات الأخلاقية: يستكشف الفصل الأول من الكتاب أسباب التصويت لليمين المتطرف في فرنسا، لاسيما في الجنوب الشرقي. ويبين أن المخاوف الاقتصادية، المرتبطة بالتوظيف وإعادة التوزيع، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتمثيلات السلبية للهجرة، حيث يعبّر الناخبون اليمينيون المتطرفون عن شعورهم بالظلم المالي والخوف من المنافسة الاجتماعية التي ينسبون أسبابها إلى الهجرة، كما يتعزز هذا الخوف من خلال نظرة جوهرية للأقليات العرقية والإثنية، باعتبارها مستفيدة من النظام وبالتالي، فإن العنصرية تهيّكل الآراء الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء الناخبين، ما يغذي خطاب المظلومية ورفض الآخر.
ـ (في الداخل) وفي التصنيف الإقليمي والتوصيفات الإقليمية، يحلل (فوري) كيف يزدهر اليمين المتطرف في منطقة الجنوب، ولا يقتصر الأمر على المناطق التي تعاني من الكساد الاقتصادي، بل يتجاوزها إلى المناطق الجذابة، حيث يشعر السكان الذين ينحدرون من خلفيات الطبقة الوسطى بالتهديد من التغيير الاجتماعي والسكاني، وهم يشعرون بفقدان السيطرة على بيئتهم، ويرتبط ذلك ويتصاعد بوصول سكان جدد وتحوّل بنية وطبيعة الأحياء السكنية. وتدفعهم هذه المخاوف، التي يغذيها الحديث عن الاستبدال الكبير، إلى التصويت لأحزاب مثل التجمع الوطني، على أمل استعادة النظام الاجتماعي الذي يشعرون أنه قد ضاع منهم.
ـ الإسلاموفوبيا اليومية: يوضح المؤلف أن الخوف من الإسلام في فرنسا متجذر بعمق في التمثيلات الاجتماعية، لاسيما بين ناخبي اليمين المتطرف. وغالبا ما يُنظر إلى المسلمين على أنهم تهديد للهوية الوطنية والقيم الفرنسية ويقع الحجاب في قلب التمثيلات السلبية، ويعتبرون رمزا لاضطهاد المرأة وخطة لأسلمة المجتمع. وهذه الإسلاموفوبيا تغذيها العنصرية الأكثر انتشارا وتعمل على تعزيز الانقسامات الاجتماعية، ويساعد الخطاب السياسي والإعلامي على تعزيز هذه الصور النمطية وتهميش المسلمين وتأجيج التوترات وتعظيم الخوف منهم.
ـ أصوات البيض: يحلّل المؤلف دوافع ناخبي حزب التجمع الوطني (Rassemblement National)، التي تتأرجح بين التعاطف مع الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهونها، والتقليل من العنصرية الكامنة في أصواتهم الانتخابية، حيث يعكس هذا التصويت التسلسل الهرمي العرقي، الذي يسعى فيه الناخبون إلى النأي بأنفسهم عن الأقليات من خلال تأكيد موقعهم المهيمن. كما يستكشف هذا الفصل أيضا التمييز بين الهجرة الجيدة والسيئة، لاسيما ما يتعلق باللاجئين الأوكرانيين، ويوضح كيف أن الناخبين من خلفيات مهاجرة يوصمون الأقليات الأخرى من أجل تأكيد أنفسهم كفرنسيين جيدين. كما يسلّط التحليل الضوء على الخوف من التدني الاجتماعي بين الناخبين من الطبقة العاملة، الذين يرون دعمهم لحزب التجمع الوطني، وسيلة للدفاع عن هويتهم ومكانتهم. وأخيرا، يُنظر إلى التطبيع العنصري على أنه عملية تتطور باستمرار وتعزز أصوات الناخبين اليمينيين المتطرفين القلقين على مكانتهم، وتدعم خطابهم العنصري من أجل الحفاظ على النظام العنصري المتصور.
ـ منطق التطبيع: يبحث الكتاب في تطبيع التصويت لحزب التجمع الوطني وتطور شرعيته. فالتصويت لصالح مارين لوبان، أصبح مقبولا اجتماعيا بشكل متزايد، متأثرا بالتفاعل الاجتماعي والتجانس السياسي المحلي. هنا ينتقد المؤلف الفكرة القائلة، إن هذا التصويت هو نتيجة للانسحاب الاجتماعي، مؤكدا أنه يعكس التفاعل الاجتماعي المشترك والهويات الجماعية. ويعبّر ناخبو حزب التجمع الوطني عن رفضهم للنخب السياسية وخاصة اليسار، ويرون في لوبان بديلا ذا مصداقية، على الرغم من شكوكهم. وأخيرا، مكّنت استراتيجية إزالة الشيطنة التي اتبعها حزب التجمع الوطني منذ نشأته من التطبيع مع الحفاظ على هويته الاحتجاجية.
ـ الاستنتاجات والمقترحات المركزية: يحلل هذا الكتاب التصويت لصالح حزب التجمع الوطني، من خلال أخذ روايات الناخبين على محمل الجد من أجل فهم دوافعهم وقيمهم وتصوراتهم. وهو يسلط الضوء على المخاوف الاجتماعية والاقتصادية والعرقية، التي تغذي دعمهم لليمين المتطرف، بما في ذلك المنافسة على الموارد والخدمات العامة، وكذلك الاستياء من الأقليات والدولة. في المحصلة، يعكس التصويت لصالح حزب التجمع الوطني الرغبة في الحفاظ على النظام الاجتماعي الذي يعتبرونه بات مُهددا. ويبدو من الأهمية بمكان إدراك البعد العرقي لهذا الدعم الذي يتجاوز مجرد المخاوف الاقتصادية، وتتطلب مكافحة هذه الديناميكية استجابات سياسية واجتماعية مناسبة.
التموضع في الساحة العلمية
السياق الأكاديمي: يندرج هذا الكتاب في إطار النقاشات الحالية حول صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وهو موضوع يُدرس على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية، ولاسيما علم الاجتماع السياسي والعلوم السياسية. ويسلط الضوء على التصويت لليمين المتطرف وعلى الأبعاد الاجتماعية، وما يتعلق بالهوية التي تحفّز هذه الاختيارات، بينما يعارض النهج الاقتصادي أو الأيديولوجي البحت.
المقارنة مع أعمال مماثلة: يتحاور عمل الكاتب مع أعمال مثل كتاب في أقصى اليمين المتطرف
(Estelle Delaine, «À l’extrême droite de l’hémicycle. Le RN au cœur de la démocratie européenne», Raisons d’agir, 2023)
يقدم فوري وديلين رؤية متكاملة لليمين المتطرف، أحدهما على المستوى المحلي الفرنسي، والآخر على المستوى الأوروبي، تتناول أعمالهما اليمين المتطرف، لكنهما يقاربان الظاهرة من منظورين مختلفين. فبينما يركز فوري على الديناميات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على التصويت لحزب التجمع الوطني في فرنسا، وعلى تصورات عدم المساواة الاجتماعية والعرقية، تستكشف ديلين اندماج الأحزاب اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي، وتحلل تكيفها مع المؤسسات مع الحفاظ على أيديولوجياتها المناهضة للبرلمانية. وكلاهما يستخدم المنهجية الإثنوغرافية، لكن فوري يركز على ناخبي حزب التجمع الوطني في مناطق محددة من فرنسا، بينما تجري ديلين مقابلات مع النواب وتراقب الممارسات البرلمانية. وعلى حين يحلل فوري الصلة بين العنصرية وعدم المساواة الاقتصادية والتصويت الشعبوي، تدرس ديلين استراتيجيات التطبيع التي تتبعها الأحزاب اليمينية المتطرفة في المؤسسات الأوروبية. ويسلط الكتابان الضوء على كيفية استغلال هذه الأحزاب، على الرغم من معارضتها الجذرية للمؤسسات، لزيادة قوتها. وتكمل هاتان الدراستان بعضهما بعضا وتقدمان نظرة عامة على الديناميات الانتخابية والمؤسسية لليمين المتطرف.
إسهامات مبتكرة أو أوجه قصور
يقترح فوري قراءة مبتكرة للإسلاموفوبيا، فلا يعتبر (فوري) الإسلاموفوبيا مجرد ظاهرة دينية، بل يعتبرها عاملا من عوامل بناء الهوية والعنصرية العادية (الشائعة، العفوية، البسيطة). وهو يسلط الضوء على البعد الإقليمي للتصويت اليميني المتطرف، مع التركيز على التصورات المرجعية في مناطق معينة، لكن من المؤسف عدم تحليل التأثيرات الوطنية والدولية التي تشكل هذه الديناميات. فمن نقاط القوة في هذا الكتاب أن فيليسيان فوري يقدم تحليلا سوسيولوجيا دقيقا لصعود اليمين المتطرف. وبفضل مسح ميداني متعمق أجراه في جنوب شرق فرنسا، يوضح أهمية المقاربة النوعية لفهم دوافع ناخبي التجمع الوطني. ومن خلال إعطاء صوت للأفراد العاديين، يكشف المؤلف عن تعدد العوامل التي تؤثر على خياراتهم السياسية، مثل مسائل الهوية وعدم المساواة الاجتماعية والتصورات المتعلقة بالهجرة. كما يسلط الضوء على تطور اليمين المتطرف وقدرته على التجذر في قطاعات معينة من السكان، مع التركيز أيضا على الروابط الوثيقة بين الخيارات السياسية الفردية والسياقات الاجتماعية والاقتصادية.
في المقابل يوجد بعض نقاط الضعف، فعلى الرغم من أن كتاب فوري مفيد، إلا أنه يفشل في فهم تعقيد الظاهرة قيد الدراسة بشكل كامل. ورغم أنه يسلط الضوء على أهمية المحددات الاجتماعية والاقتصادية، لكنه يهمل الجوانب الأيديولوجية الكامنة وراء التصويت لليمين المتطرف. ومن شأن تحليل أكثر تفصيلا لهذه الآليات أن يوفر فهما أفضل لكيفية نشر هذه المواقف وإضفاء الشرعية عليها داخل المجتمع، بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن المقاربة متجذرة في العمل الميداني، إلا أنه يمكن إثراء تمثيل الطبقات الاجتماعية ومجموعات الأقليات بمزيد من المنظورات المقارنة أو التاريخية، من أجل توفير سياق أوسع لتطور هذه الظواهر في المجتمع الفرنسي.
….
يقدم الكتاب رؤية دقيقة وعميقة لاتساع ظاهرة اليمين المتطرف في فرنسا، تشكل مرجعا مهما يساعدنا على فهم ناخبي اليمين المتطرف، عبر الجمع بين التحليلات الفردية والعمليات الاجتماعية، وقد أخذت المقاربة السوسيولوجية التي اعتمدها الكاتب أهمية خاصة، لأنه تجاوز بتحليلاته التفسيرات التبسيطية وألقى من خلالها نظرة نقدية على قضية مقلقة من قضايا السياسية الفرنسية المعاصرة. إنها مقاربة ضرورية تشجع على التشكيك في الأسس النظرية والمنهجية لأبحاث العلوم الاجتماعية التقليدية، ويفكك القوالب النمطية التي تكشف عن الدوافع الذاتية والمعقدة للناخبين، موليا أهمية خاصة لتضافر العوامل الاجتماعية والاقتصادية والشعور بالغبن والمخاوف المتعلقة بنقاء الهوية والتي تلعب دورا بارزا في دعم اليمين المتطرف.
باحث في معاهد الدراسات السياسية Science Po في ستراسبورغ *