ثقافة وفنون

لبيبة هاشم… عن الكفاح النسوي في مزاج مغاير

لبيبة هاشم… عن الكفاح النسوي في مزاج مغاير

الحسام محيي الدين

غاية ما يمكن أن تبلغه الحضارات من تطور، هو اتصال ثقافتَين قصداً، أو عفواً من شرق وغرب أو جنوب وشمال، نخص بذلك تشابك النشاط الأدبي العربي وحقلَي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا معا، كمظهر مديني من المثاقفة التي تشكّل الترجمة أنجع وسائلها المُزامنة للمعنى الخادم لألفة حضارية لا تنتهي، بين رؤى وأفكار وعقائد، التوجه الذي نفتقده جداً في اهتمامات النظام الرسمي العربي اليوم إلى حد كبير. نتكلم هنا عن جمعية «نساء ذوات ثقافة مزدوجة» Femmes de double culture التي أطلقتها في باريس عام 2003 الفرنسية اللبنانية فاطمة الخواجا، في خطوة فردية تواجه انحسار هذا التواصل الحضاري إلى أدنى زواياه الضيقة، وفي الوقت الذي نتطلع إليه كحاجة أممية تتقبّل هوية الآخر، ولا تتخلى عن الهوية الوطنية، ليأتي كتابها الجديد «لبيبة ماضي هاشم (1882 – 1952) نحو ريادة نسائية»، الصادر بالعربية عن الجمعية، مواكباً لصدوره بالفرنسية في باريس لهذا العام 2025. ليس هذا الكتاب الأول للخواجا في هذا المجال، فقد حققت عبر الجمعية أكثر من كتاب، واشتغلت على مشاريع ثقافية من ندوات ومحاضرات وورش عضوية، كرستْ فيها مساراً مفاهيمياً لما يمكن تسميته بقِيَم مُعاصِرة مُتاحة بين شرق عربي وغرب فرنسي تحديدا، على الرغم من التحديات الأيديولوجية لذلك المسار، نذكر منها: أعمال المؤتمر النسائي الأول – معهد العالم العربي – باريس 2017، ومؤتمر «كيف يُكتَب تاريخ المرأة اليوم؟» باريس 2019 – طرابلس 2020 ، إلى إصدار كتاب «غادة الزاهرة – زينب فواز» وهو رواية، في طبعتين عربية (2023) وفرنسية (2014) كلتاهما في باريس.
تنقلت الخواجا بين بيروت والقاهرة وباريس ولندن، من دار الكتب والوثائق في القاهرة إلى مكتبة فرنسوا ميتران، فمكتبات جامعة السوربون، ثم مكتبة ساوث لندن ( SAOS )، إلى أن كان الانتهاء من كتابها مُصدّراً بإهداء «إلى روح لبيبة هاشم، واحدة مِمّن أمَطْنَ اللّثام عن قدرات المرأة في العطاء»، حافلاً بالمتعة الأدبية، غنياً بالمعلومة الدقيقة التي يمكن اعتمادها بحثياً وأكاديميا.
يبسط الكتاب في مقدمته حقائق تاريخية عن هجرة أهل الشام إلى مصر، ويؤكد أن المسألة ليست في الخلاص من الحكم العثماني، فهذا مفهوم شائع غير موضوعي، وإنما كان طمعا في دخول أرض مصر، لاسيما أيام الخديوي حلمي، حيث الحرية والحياة الجميلة وسعة الرزق، وطغيان حياة الانفتاح الاجتماعي على المشهد الثقافي من آداب وفنون وصالونات، ومحاولات مساواة المرأة بالرجل، وفتح الأبواب أمام المرأة للعمل والكتابة وتعليم البنات، إلخ… ثم مسيرة الخديوي إسماعيل بعد ذلك، على خطى محمد علي من البعثات والاهتمام بالعلوم، وهذا كله انعكس إيجابا على وضعية المرأة العربية منذ ذلك الحين، التي أفادت من هذه الفضاءات المنفتحة معرفيا واجتماعيا. كما يضيء الكتاب العامل التربوي في شخصية الإنسان العربي، كمسألة إشكالية تاريخية، يجب أن تُدرّس لأجيال اليوم ولاحقا، إذ لا بد أنها تركت أثرا كبيرا في شخصية الفاتحين القادة، أو العلماء العرب، سواء في ما نقلوه عن السريانية واليونانية، واستفاد منه الغرب لاحقا لبناء حضارته، أو في ازدهار المشهد الثقافي في الأندلس لمئات السنين، قبل أن تندثر بسبب الاختلافات القبلية والصراع على الحكم.

تأسف مؤلفة الكتاب لأن معظم المراجع الأدبية والكتابات المعاصرة، وحتى وقت قريب لم تُعِر لبيبة هاشم الاهتمام الكافي، فلم تتداول سيرتها الغنية كرائدة أدبية اجتماعية وناشطة نسائية ثائرة في زمن مبكر من تاريخ العرب الحديث، كما تعدها «حلقة مفقودة في تاريخ الصحافة النسائية».
لبيبة هاشم أديبة صحافية وُلدت في بيروت، وتعلّمت في مدارس الإرساليات فيها (راهبات المحبة ومدرسة الراهبات العازاريات) ثم تزوجت من عبده هاشم وانتقلت معه إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، استقرت فيها ونشطتْ أدبياً واجتماعياً بين عامَي 1896 و1919، فأطلقت هاشم باكورة أعمالها رواية «حسناء الحب» عام 1898، كما رادتْ بشجاعة فن القصة القصيرة مع أوائل من كتبوها، أما أولى مقالاتها فصدرتْ في مجلة «الهلال» عام 1896 بعنوان «المرأة والعلم والمال»، ثم توالياً في مجلات وجرائد عديدة مثل «لسان الحال» اللبنانية (أسسها خليل سركيس عام 1878) و»الثريا» البيروتية، وفي «أنيس الجليس» و»الهلال» و»المقتطف» و»الفتاة» وجميعها مصرية. كان واضحاً نهمها الكبير للقراءة، فاستغرقت وقتاً متسعاً بين صفحات كتب رفاعة الطهطاوي وعائشة تيمور وزينب فواز، وتأثرت بهم، ولم تتأخر عن الالتحاق بدعوة ماريانا المراش إلى تحرّرالمرأة السورية ودخولها معترك العلم والعمل، التي أطلقتها في مقالتها الموسومة «شامة الجنان» لمناسبة صدور جريدة «الجنان» السورية عام 1870، المقالة التي تعتبرها الخواجا بداية خوض المرأة العربية في الكتابة الصحافية، قبل أن تنتقل عدواها إلى مصر مع عائشة تيمور ومريم النحاس وسارة نوفل، ثم زينب فواز ولبيبة هاشم وملك حفني ناصف ومي زيادة ومنيرة ثابت وفاطمة اليوسف، وغيرهن ممن كتبن في أحوال المرأة الاجتماعية والسياسية وقضاياها من زواج وطلاق ولبس الحجاب وتعليم البنات وغيرها.

لا حدود لطموحات هاشم، فقد عيّنتها حكومة الملك فيصل الأول مفتشة عامّة لمدارس البنات عام 1919 بعدما ذاع صيتها الأدبي والاجتماعي، لاسيما تأسيسها لمجلة «فتاة الشرق» عام 1906 التي ظلت تصدر حتى عام 1939، هذه الفترة التي سافرت فيها مع زوجها التاجر إلى أمريكا اللاتينية عام 1921، وأنشأت هناك أيضاً مجلة « الشرق والغرب « فصدرت لعامَين فقط، ثم عادت لتتابع نشاطها في «فتاة الشرق»، التي ترى الخواجا أنها المجلة الأطول عمرا في تاريخ الصحافة النسائية قبل ثورة 1952، والتي تناولت فيها أهم الموضوعات القريبة فكرا وقضايا مما كانت تكتبه أستاذتها وملهمتها زينب فواز، وزميلتها في عضوية الحزب الوطني في مصر، برئاسة محمد فريد مصطفى كامل، الذي انتسبت إليه وكانت من خطيباته المتألقات. قدمت لبيبة هاشم نفسها رائدة من رائدات بلاد الشام في العلم والانفتاح والتنوير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مصر وبلاد العرب، اطّلعت على الأدب الغربي وقرأته جيدا، وكانت القضايا التربوية محور اهتمامها فكرا وممارسة وكتابة، إذ عالجت في نصوصها مسائل تربية الأبناء، وانتقدت نماذج النسوة اللواتي أسأن استعمال الحرية الاجتماعية، التي مُنِحت لهن، كما اعتبرت أنّ «المرأة هي المرأة سواء في مصر أو الشام أو في أي دولة غربية أخرى، وإنما يكمن الفرق في التربية والتعليم»، وقد فّقت بنجاح بين عملها الأدبي والصحافي والاجتماعي لأجل المرأة، ومكانتها كربّة منزل وزوجة وأم لثلاثة أولاد حتى كبروا واستقلوا بحياتهم الخاصة.
مؤلفات لبيبة هاشم في القصة: «حسناء الحب» (1898) «الفوز بعد الموت» (1899) «جزاء الخيانة» (1903) «الدثار» (1906) وفي الرواية: «قلب الرجل» (1904) «شيرين» (1908) «جزاء الإحسان». وفي الكتب التي اهتمت بالتربية والتعليم والأخلاق الاجتماعية: «كتاب في التربية»، «محور المصنف الذي بين أيدينا»، وهو مجموعة محاضرات في الجامعة المصرية للعام الدراسي 1911 – 1912، طبعته دار المعارف العمومية، مؤلف من تسع محاضرات، أما العاشرة فهي خاتمة الكتاب، ومما يتناوله الكتاب: دور الأم في التربية، المرأة والنقاب، نساؤنا والبطالة، تربية الذوق، كلمة إلى فتياتنا الكاتبات، اللغة العربية في مدارسنا، المرأة الشرقية: كيف هي وكيف يجب أن تكون. كما قامت هاشم بترجمة العديد من كتب الأخلاق والروايات إلى العربية وأخذت منها وقتا كبيرا. الجدير ذكره أن هاشم كتبت مسرحيتين: الأولى، «الابن الضال» من 32 صفحة، والثانية بعنوان إحدى قصصها وهو «جزاء الخيانة» من 64 صفحة أصدرتها في كتاب خاص، حيث نلاحظ هنا أنّ معظم كاتبات القرن التاسع عشر طرقن باب المسرح من خلال التأليف.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب