سيدي سليمان… مدينة اليتم والتيه

سيدي سليمان… مدينة اليتم والتيه
جواد المومني
«الصمت على قسمين: صمت باللسان، وصمت بالقلب» ابن عربي
هذه المدينة؛ تنكشف بنهارها، تتدثر بليلها الحزين، تغشاه ويغشاها بلا معنى. هذه المدينة مصادفة غريبة للرمل بالأوكاليبتوس. مثلما نشأت من حلم، قد جسدها الشهي لضياع أبدي، وتاها معاً. تجرأت على سؤال العادة وطقس التآكل من الأطراف، تخلت عن شرايينها، اقتطعتها لغلالة النار والغبار، وأدخلتها ظلال الخوف والعبث.
لم يكن للريح أي دور في الخراب! ولا الخراب لم يحمل الريح وأد الحنين الجارف للمدينة الشبح! الفراغ، صنيعة أياد سوداء؛ ضخت صولة عنفها على ما تبقى فيها من ورود، أَرْدَتْ رماداً روح وشمها الأخضر المنعنَع، وعشقت بسطوة الضلال، ثم عجلت بمديد الكآبة وبنصر اللعنات، فبثقل الضباب، إلى الفقد الأعتى !
هذه المدينة، كانت وسادة الأحلام لصغار الناس وسر أشواقهم المكبوت، غير المباح به. أثثت بهاءها بسواعدهم، ولهم أشهرت دواخلها؛ فأجبرت على اغتصاب الوردي منها. دكت طفولتهم تحت أنقاض الصمت، وتكسرت على نواصيه ذكريات الشوارع المغبرة وأنات الوادي.
الوادي، ذاك الذي استشعر الخيبات مبكراً، فانبرى لها بموت قبلي… «بهت» الذي «بهت» من فعل الجاحدين، «بهت» الذي شق تاريخ المدينة بأنفاس معتقة من عجيجه وحكاياته البليلة. كان فيضه ناعماً رغم القساوة، يسمح بالتخلل عبر الأتربة، ويمسح بعض الأحزان عن مرتاديه وقت القيظ، ويتسلل إلى دورهم، عندما يغضب.
للمدينة هذه، كانت أركان وزوايا.
أرض عذراء، كانت هذه المدينة،
ولها ذاكرة السراب، كانت.
سيدي سليمان،
سيدة أختامها، هذه المدينة، من ضباب غجري وليل جارح «مموسق»… بـ«هَيْتٍ» بديع، لـ»هَيْت» خصيب، في «هَيْتٍ» سريع، عن «هيْت حلوفي» صاخب، قُدَّ من نار، من فراغ أزرق يحمل برتقالاً دموياً لا يخون رحيقه، من صهيل المغربين في دفء مفتقد واحتمالات الأصياف الشبقة اللصيقة بجذوع الأوكاليبتوس والصفصاف الباكي، من انكسار الأوهام اليمنية على محيط التراب الأحمر، من امتداد جمهورية المتسكعين البررة بخرقهم ذات الروائح النفاذة، يفقدون بها وعيهم ليعيشوا أحلامهم المشوهة، من نكبة الماء المسافر بين الأزقة، حاملاً بقايا الأعراس، من كرم الرعاة الذين يتحسسون نوايا الأرض الخضراء، فينشرون ذهول أمنياتهم على جسر، عبارة عن ماسورة معلقة فوق الوادي، صدئة رابطة بين ضفتين: الأولى مشرعة على شعب الموتى، والأخرى تتسول أقدام الحفاة!
أحلام هذه المدينة تُسائل الوعود وتوالي الخيبات.
تذكر أنها أرض جيء إليها بعزائم كبيرة وقصص مجنونة حاضنة للأفق الأبيض، متطلعة للمقبل من الأيام. جيء إليها بكل ألوان الوطن طلبا للتشييد والإعمار. كانت الأحلام مقدسة، متاخمة لبلور السماء، فانكسرت وصعب عنها الطلق، بل اختفت الأمسية والصباحات المترنمة إلى جوار البرتقال، وشجيرات الفلفل، وأعذاق العنب، وأكوام السنابل، وجذور الشمندر السكري. اختنقت وبارت ثم تلاشت في هدوء جنازي. عبرت هذه الأحلام كغيمة ماطرة، إلا أنها رشت وانفلتت.
هذه المدينة،
سيدة المساوف القصيرة.
أحجياتها لم تغب عن تراب الأزقة ولا عن رمال غاباتها المباركة… والمنهوبة. ما يطال الشجر، صمت إزاءه البشر في الْتِذاذة زائفة، زائغة وزائلة، خالها طائر البلشون صدر النعم والمأوى؛ لكن الفجيعة كانت أقوى وأمر.
حاجة المدينة إلى وجوه أخرى، مستبشرة قوية، مسألة غائبة مغيبة عن الكائنات التائهة المندهشة والمدْهوسة. ما أتاها غير التجار الغرباء، ينحدرون من إكسير العادة الشهرية، يعلمون الناس الصيد في بحر همومهم، وما غير الزبد في شباكهم!
هذه المدينة الجائعة، جائعة حقا للجمال وللجميل، مأخوذة من ناصيتها بلا دم. عطشها للنبض، حيث لا نفع للنوايا. تضمن الاغتراب. وباستمرار تتمرن على الموت البطيء مرفقة بسيمفونية الغربان المعَرِّشة، ورقص الذئاب حول جسدها البالي المنهوك الذبل. كل عواصف العروض النارية تصطف عند مداخلها، بانتظار الدور المقبل، القاضي على ما تبقى من حياة فيها، ولا يطول الانتظار، إذ الطرقات المجنونة، نازلة، لا تكاد تستشعر نبضاً حتى تخمده!
هي مسرح مسترسل لمراسم الدفن والمواراة والوجع. صارت رافضة للنهار أشباحها الهائمة، ربما خجلاً أو خوفا، أو ربما قصورا، لأنها أضحت بلا وقار وحياة، بانتظار الإنعاش المغيب.
كبرت وتعلمت أن للنوايا حراساً، أشداء على غيرهم (رحماء بينهم!) ثم أدركت أن أشكال القهر تتمدد، وتتجدد بحسب السلعة المعروضة. ولا أخالني مخطئاً، فالفتنة (فتنتها الكبرى!) التي استقرت بأرض هذه المدينة، مستمرة في الزمان، متواصلة، إن لم تكن في الأبدية المطلقة! وجوه حمّالة لذعرها الداخلي، محترفة كل أنواع البارانويا والعنف، تصول متطاوسةً، تتحكم بجنون في مسارات ومآلات الشجر والحجر والبشر، غير آبهة بكل الخدوش الغائرة والمفاوز الرهيبة التي تزرع في تربة هذه المدينة، ولا بالصرخات التي تَكتم، أو بالضياء الذي تَسُدُّ. في قبضتها قلوب صلدة تصر على وأد الشرايين ليس إلا!
ليت لهذه المدينة قدرة على الفكاك من أَسْرٍ عَمَّرَ، وفرح مَبيدٍ مسحوق. شوارعها؛ تدنو من الموت أكثر، وتقتنع بالنهاية الغريبة لمصيرها. قد طال عفنها وتحللت وجوهها المحنطة. ما عاد للقتامة فيها أنملة شاغرة! فماذا يحتاجه إسفلتها؟ وماذا تبغيه أعشاش لقالقها؟ لا شيء، ربما! وكل شيء، أكيد !
سيدة اليتم، هذه المدينة.
ذات الهامة المنكسة،
وجه آخر للجحيم،
الشهقة المبتورة
والحكاية التي لن يسمعها أحد!
حزن هذه المدينة أبدي، مهووس بالمكوث، وصمتها القهري غصة تتصخر، أما حنينها الأخرق، فلا أقدار حمقاء أخرى يمكنها أن تحضنه، غير العمى!
أديب وناقد من المغرب