ثقافة وفنون

«وادي المسك»: رحلة إلى عوالم الوجود في معراج فراشة

«وادي المسك»: رحلة إلى عوالم الوجود في معراج فراشة

مريم مشتاوي

لطالما كان نقاء الروح وطهارتها في الموروث العرفاني باباً لعبور حدود ما يُدرك بالحس، نحو عوالم مشبعة بالأنوار والأسرار، حيث يفوح عبق حضور استثنائي، نقرأ عنه في قصص القديسين وكرامات الأولياء. لكن ماذا لو لم تكن هذه العوالم مجرد أساطير؟ بل تجارب يمكن أن تُعاش في واقعنا المعاصر؟ قد نميل إلى اعتبار مثل هذه السرديات غرائبية وضرباً من الهذيان، مقارنة بالاهتمامات الأدبية التقليدية، غير أننا أمام عمل يستحضر روح التكوين الفلسفي الوجودي، كما لو كان فيلما كلاسيكيا يُعاد عرضه على جيل جديد، فيشاهده وكأنه أُنتج حديثا. رواية تتحدى المعتاد لجهة تنميط الإجابات على الأسئلة الوجودية الكبرى.. وتغري من يتحلّى منّا بشجاعة اقتحام حدقة العين، والغوص في داخلها بحثا عن «وادي المسك». تتحرك شخصيات رواية «وادي المسك» للروائي حسان زين الدين، بعد أن تسمع فراشة النداء: «يجب ألا يظلّ جنس الفراشات غافلا عن سر الحياة»، فتتنافس «لِصُحبة الحكيِمَات الباحِثَات عن المِسك غِذاءً لأرواحهنّ وأجسادهنّ»، وتهيم بحثا عن غزال وحيد يمر بجبالها مرّة كل ربيع، وتصغي لهدهد «يبقى بحِكمته واتِّزانه ورجاحة رأيه النموذج الأسمى والوسيط اللّازم لحرّيّة كُلّ كائن يطير». أما الإنسان، فلا يظهر إلا عبر أستاذ فلسفة، وابنه عالم الأحياء، اللذين يمثلان شاهدين على رحلة فراشة.

تبدأ الحكاية في مختبر في سويسرا، قبل أن تقود الأقدار زارا إلى المشرق، حيث تخوض اختبارات مثيرة، تمثل إسقاطات رمزية على سعينا خلف سرّ الوجود، الذي أغفلناه.
يمكن النظر إلى هذه الرواية بأنها امتداد لتراث أدبي ضارب في الزمن، من «الحي بن يقظان» في تجليات ابن طفيل والسهروردي، إلى «منطق الطير» لفريد الدين العطار، لكنها تتجاوز استلهام هذا التراث، لتُعيد تشكيله برؤية معاصرة. النص مكثّف كمعراج يتسامى عبق المسك منه في فضاءات المخيال الصوفي، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والسرّ، بين الأرض والسماء، بين الدنيا والجنّة والعوالم الخفية، بين الفراشة والنور، «كأننا قدماء، قدماء في معرفة واحدنا للآخَر». و»الكَون كُلّه.. مساحة قلب فراشة». تمتزج في رحلة زارا نحو قمة باب السماء التحديات بدهشة «انكشاف معنى وجودنا في الفراشة الأصل». تتعرف هناك على حكماء من جنسها ويتعّلق قلبها بقلب أحدهم: «وماذا لو قلت لك إن اللقاء بك هو بالنسبة لي غاية الطريق! والتباصر معك خير لي من امتلاك الزهور والثمار والرياحين كلّها؟»، ولكي يجعلها صانعة لقدرها، يوضح لها أنه: «مُخطئٌ مَن اعتقد أنه طار أو يطير بجناح سِواه، فهذه طريقة صناعة الأتبَاع لا الأحرَار».

هل كُتب على الفراشات أن تحترق بوهج اللهب، كما في الحكايات القديمة، مثل «ملكة الجن» (the Faerie Queene) لإدمون سبنسر؟ لكسر هذا التصور التراجيدي، تطرح الرواية بديلاً آخر أكثر تفاؤلاً لمسألة المعرفة: الغوص في النور بدل الاحتراق، اختراق الحقيقة بدل الفناء فيها، مع الاحتراز من أن «النشاز عن النغمة هو تحرّر مِن رحلة الحقيقة، وهذا النوع مِن التحرّر هو استقالة وليس حُرّيّة». وكيف يمكن تجاوز فكرة الخلاص المأساوي الذي علق عنده جون ميلتون (John Milton) في «الفردوس المفقود» (Paradise Lost)؟ بالتكيّف وإتقان «فن التماهي»(عنوان الفصل العاشر) وحضور النموذج الأخلاقي كشرط مسبق للتدرج في معراج الحقيقة، برفقة «اليقين بوجود فراشات وادي المسك الأكثر كمالاً».
نحن أمام لغة متينة ذات طابع شعري في رواية وازنة، نسيجها مختلف عما ألفناه. تجري أحداثها في القاهرة التاريخية، في زمنين متداخلين، ويظلل تلك الأحداث «القلق» المواكب لتحولات يقودها ذكاء اصطناعي، متقد، لكنه ليس حكيما بالضرورة، بالإضافة إلى البعد النقدي تجاه الراهن، تُظهر الرواية انحيازاً واضحا لموقف وجودي يرفض استباحة منظومة القيم، عبر طفرات تعميم التفاهة، ويقاوم إخضاع العالم للتطور التقني. كما يسلط الضوء على خيار السير في الطريق المعاكس بعيون مفتوحة نحو «عالم الداخل حيث معاني الأشياء أفكار قائمة بذاتها دون قياس أو انفعال، مثلها مثل معاني الألوان».
يجول بنا حسان زين الدين بين 14 فصلاً موزعة على 212 صفحة، ويدعونا لاجتياز حدود المعلوم، بحثا عن ذواتنا في مرايا الوجود، حيث الحقيقة ليست اكتشافا في الخارج، بل هي انكشاف في الداخل. تماما كما في عالم الفراشات، الرؤية عبور من صحبة ظلال الأجنحة إلى التحليق مع الحقائق.

كاتبة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب