ثقافة وفنون

لا تاريخ ولا مُحاسبة

لا تاريخ ولا مُحاسبة

سهيل كيوان

«التاريخ ح يتوقّف كثيراً جداً، وح يحاسب وح يحاكم ناس كثيرين جداً ودول كثيرة على موقفها من هذه الحرب، التاريخ ح يوقف كِده، والضمير الإنساني مش ح يفضل صامت بالطريقة دي».
القائل هو الرّئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وذلك خلال مؤتمر صحافي أقيم يوم الأول من أمس الثلاثاء، مع وزير خارجية فيتنام في القاهرة.
بهذا يوحي الرّئيس المصري بأنّه قام بما يمليه عليه ضميره وواجبه، كرئيس لأكبر تجمّع عربي محاذٍ لقطاع غزّة المحاصر، والذي يموت سكانه تجويعاً في معسكر اعتقال كبير اسمه قطاع غزّة.
يلوم السّيسي الآخرين على موقفهم، ويتوعّدهم بمحاكمة التاريخ. وقد كرّس خطابه هذا لتبرئة نَفسِه ونظامه من دماء وأرواح أبناء غزّة هاشم.
لو افترضنا أن التاريخ يحاسِب، فيجب أن يكون هناك تحقيق في حيثيات ما جرى، قبل أن ينطق التاريخُ حُكمَه!
سوف يُرسل التاريخ محقّقيه وباحثيه لمعرفة الحقيقة. وسوف يبحث هؤلاء بما جاء في وسائل إعلام هذا العصر.
من المؤكّد أنّ مواقف وخطب السيسي ستؤدي إلى ارتباك الباحثين.
سينتبه أحد الباحثين المعروف بغبائه الشّديد، أنّ السّيسي يتحدّث عن قطاع غزة بصفته مكاناً بعيداً جداً عن حدود مصر، وسوف يرتبك الباحث ويعود إلى الخارطة، ليتأكّد بأنّ مصر تحدُّ قطاع غزّة.
كون السيسي يدين من يصمت، فهذا يعني أنّه لم يصمت على الإبادة! وسيجد الباحثون تناقضاً.
وصف السّيسي الحرب لأول مرّة بـ «إنّ ما يجري هو حرب إبادة، تجاوزت هدف إطلاق سراح الرهائن»، وذلك خلال المؤتمر الصحافي مع وزير خارجية فيتنام، في الخامس من آب/أغسطس 2025، أي بعد مرور 667 يوماً من بدء حرب الإبادة المعلنة، أما وصفه السّابق لهذه الحرب فقد كان في أيار/مايو 2025 بأنّها «ممارسات مُمنهجة لتصفية القضية الفلسطينية، وتحويل غزة إلى غير قابلة للعيش»! أما الوصف الأسبق من هذا وذاك، فهو في ديسمبر/كانون الأول 2024 بقوله «ما يجري هو تجاوزٌ لكلّ الحدود الإنسانية والقواعد الدولية».
من هنا نفهم أن التاريخ لا شأن له بإدانة هذا أو ذاك، فقد يرحم من لا يستحق الرّحمة، ويجلد من يستحق التّقدير والاحترام. التاريخ ليس واحداً، إذ يكتبه كثيرون، ولهذا له أوجه عديدة، وعادة فإن الأقوياء والمنتصرين والحكام وكتّابهم يكتبونه ويجعلون من تاريخهم نظيفاً حافلاً بالشّهامة والبطولات والأعمال الخيرية «خِفية»، وفي المقابل يستخفّون الأعداء ويجعلونهم إرهابيين وحشاشين ومنحرفين جنسياً، وعنصريين، وطائفيين، وسكّيرين، وتجار مخدرات وحتّى أعضاء بشرية.
سيعود الباحثون إلى وثائق منظّمات إنسانية مثل هيومان رايتس، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوقية مصرية، وسيجدون أنّه قد جرت في مصر منذ 2023 و2025 مئات الاعتقالات لنشطاء مصريين تظاهروا سلميّاً ضد الحرب على غزّة.
وسيجدون تشدُّداً في القبضة الأمنية الصّارمة لأيّ نشاطات، بما في ذلك لصحافيين ونشطاء، فقد اعتبرها النظام تهديداً للأمن القومي. وبلغ عدد المعتقلين على هذه الخلفية -بحسب منظّمات حقوق الإنسان من صحافيين ونشطاء بسبب تضامنهم مع قطاع غزّة- إلى المئات.
أكبر مظاهرات جرت في عدة مدن مصرية كانت في 20 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، أي في بداية الحرب. بعدها، جرى التقييد والتشديد على هذه الأنشطة بذريعة الأمن القومي، علماً أنّ المتظاهرين كانوا مؤيّدين ضمناً لموقف السّيسي المُعلن الرّافض للتهجير بعد لقائه مع المستشار الألماني أولاف شولتز في 18 أكتوبر 2023 في شرم الشّيخ. وكان يمكن للسيسي أن يطلق العنان لهذه المظاهرات، لتشكل ضغطاً حقيقياً لوقف الحرب، ولكن تقييدها دفع مصر إلى مواقع متخلّفة جداً من حيث عدد التظاهرات والمتظاهرين والنشاطات ضد الحرب. في الترتيب التسلسلي، تراجع دور مصر إلى مواقع متأخّرة عن عشرات دول، مثل أفغانستان، بنغلادش، إندونيسيا، فرنسا، هولندا، السّويد، كندا، وبريطانيا، أمريكا، اليمن، الأردن، لبنان، المغرب، تركيا، باكستان، تونس، الجزائر، ليبيا، أستراليا، اليابان، وعدد من دول إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
لو أطلق نظام السّيسي المجال للمظاهرات في مصر من غير قمع، لشارك فيها مئات الآلاف وحتى ملايين، وكان شكّل أكبر عامل ضغط ممكن أن يمارس على الاحتلال لوقف همجيّته، ولكن هذا لم يحدث، وبقي الشّعب المصري مغيّباً ومخدّراً، وفي أكثره يتوهّم أنّ النظام يقوم بالفعل بدور قوميٍ ووطنيٍ وحتى تاريخي، ويمكن القول إنّ قبضة النّظام المخيفة ردعت الناس عن المشاركة.
سيأتي باحث ويزعم أنّ هنالك شواهد وتقارير عن سمسرة ورسومٍ باهظة على مرور الشّاحنات عبر معبر رفح، وهي تحمل مساعدات إنسانية وبضائع للتّجار، تتراوح الرّسوم بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف دولار وأكثر على كلّ شاحنة. وهذه تجبيها شركة أبناء سيناء، وهي مرتبطة بجهاز المخابرات المصرية، الأمر الذي عرقل وأبطأ دخول المساعدات عبر معبر رفح. لكن السّلطات المصرية تنكر وجود سمسرة، رغم شهادات تجّار ومنظّمات إنسانية كانت تحاول إدخال المساعدات وتؤكّد ذلك.
على الأرجح أنّه سيجري تضليل التاريخ، أو أن التاريخ سيضلّل نفسه عمداً، كي لا يدخل في متاهات ويتعرّض هو نفسه للاعتقال والإهانات. سوف تضيع الحقائق، كما ضاعت حقائق كثيرة من قبل، ومثلما باتت بعض الأكاذيب والدعايات حقائق وبديهيات لا يستطيع عموم الناس مناقشتها.
مقولة مزبلة التاريخ أيضاً غير دقيقة، وصارت قديمة، وحان الوقت لإلغائها، فالقمامة يجري إعادة تدويرها، ومنها تُصنع أسمدة باهظة الثمن، تعود على البشر بخير وفير.
محكمة التاريخ سخيفة، لا وجود لها، فقد أثبتت التجارب سهولة خداع الجماهير، وحرف مسار تفكيرها من الأساس إلى الهامش، من خلال صناعة الأوهام والتجييش الحزبي والطائفي والإقليمي والوطني والعشائري.
سؤال سيطرحه الباحثون عن قصة التّظاهر أمام السّفارات المصرية عبر العالم بما في ذلك في تل أبيب؟
الرّئيس المصري وصفها بالإفلاس السّياسي! ووصفتها السّلطات المصرية بأنّها مدبّرة من الإخوان المسلمين! أليس هذا هو الإفلاس السياسي بعينه؟
تقول مصادر النّظام المصري إنّ أنس حبيب المبادر لإقفال السفارة المصرية في هولندا، هو ناشطٌ إخوانيٌ، ويا للهول، فقط شارك في اعتصام رابعة عام 2013 وهرب إلى تركيا عام 2017 ومنها إلى هولندا.
ولكن لماذا يهرب؟ هل كان مطلوباً للعدالة المصرية؟ لا، لم يكن مطلوباً قط، إذاً فقد خرج من مصر ولم يهرب منها.
استغل الإعلام الرسمي مظاهرة إسلاميين فلسطينيين أمام سفارة مصر في تل أبيب، وزعم أنّها مدفوعة من الشّاباك الإسرائيلي، وأظهروا في الصُّور أعلام إسرائيل في المظاهرة. وساندهم في هذا الادعاء نُشطاء من اليساريين العرب في إسرائيل.
الحقيقة أن الأعلام الإسرائيلية كانت بأيدي فاشيين متطرّفين جاؤوا لمهاجمة نشطاء الحركة الإسلامية انتصاراً للسّفارة المصرية.سوف يكتب الباحثون أنَّ دولاً غربية وعربية ومنها مصر، ألقت معونات إنسانية من الجوّ، فأنقذت آلاف النّاس من الموت جوعاً، رغم مصرع العشرات خلال التّدافع لتلقي هذه المعونة وما فيها من إذلال، أو لسقوط أطنان المساعدات في مناطق يسيطر عليها جيش الاحتلال والعصابات التي يدعمها.
في النهاية، لن تَحسِم محكمة التاريخ مَن هو المذنب ومن هو الضحية، ولن تَحسم في دور الدول المتواطئة مع الإبادة، فهناك من تعاون مع الاحتلال بنيّة طيّبة و«بتاع ربّنا» و«أروح من ربّنا فين» التي أعجبت الإسرائيليين أكثر من المصريين والغزّيين أنفسهم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب