
دروز وبدو وإسلاميون: اشتباكات روائية!

حسام الدين محمد
يقوم عنوان هذا المقال بتحريف لعنوان مجموعة غالب هلسا القصصية «زنوج وبدو وفلاحون»، وهو تحريف فرضته أسئلة الأحداث الأخيرة الجارية في محافظة السويداء، التي تسكنها أغلبية درزية، مع أقلية عشائرية، ضمن توتّر عنيف مع الحكومة السورية، ذات الطابع الإسلامي. يهدف المقال لتقديم عرض عام لهذه العناصر، التي تبدو متفارقة، ضمن مسعى لضمّ ألوان الموشور بعد تفرّقها.
يقول طافش، وهو أحد شخصيات «زنوج وبدو وفلاحون»: «العبد ذبح الشيخ، والفلاح ذبح سحلول. عمرها ما انسمعت. ما ظل غير النسوان». من خلال هذه الجملة التي يطلقها أحد أفراد عشيرة بدوية، يوصّف الروائي والقاص الأردني، سياقا تاريخيا محددا لبدايات تشكل دولة الأردن، عبر المنظومة الاجتماعية المهيمنة، حسب التراتب الرمزي البدوي، حيث يقع شيخ العشيرة في أعلى السلّم الاجتماعي، ليأتي بعده الفلاحون، ثم الزنوج (السود من أبناء غور الأردن).. ثم النساء!
أما متعب الهذال أحد الأبطال البدويين في رواية عبد الرحمن منيف، «مدن الملح»، فيواجه الهيمنة المتمثلة في الأمريكيين، الذين جاؤوا للتنقيب عن النفط، بتنسيق مع السلطات الرسمية، بالرفض، لكن غضبه يتحوّل لاحقا إلى يأس ورحيل عن الأهل والأرض. يعتبر الكاتب اليمني محمد العليمي، أن شخصية الهذال تمثل «البذرة العربية الدفينة، التي تقاوم محاولات الآخر للاختراق والهيمنة والسطوة وفرض الوصاية»، ويعتبره «كمنقذ وحيد يبعث سؤال الهوية، ويثير تساؤل العربي حول الذات والآخر». يوظّف منيف أيضا شخصية نجمة المثقال، المرأة التي تحذّر من المجهول الذي تتجه إليه البلاد، خالقة بتنبؤاتها وهذياناتها جوا من التوتر والتخوّف من المستقبل الآتي، كما لو كانت زرقاء يمامة حديثة، ومقابل الشخصية العنيفة التي يقدّمها هلسا للبدوي، يستخدم منيف الطبيعة الانسحابية والتوجسية للشخصيتين، وبعدها شخصية شعلان ابن متعب، لرصد التحوّلات الاجتماعية والنفسية الكبرى الجارية.
من «دروز بلغراد» إلى «الطنطورة»
بالتوازي مع أعمال هلسا وثلاثية منيف، اشتغل كتّاب مثل إبراهيم الكوني، وحمدي أبو جليل، وميرال الطحاوي، ويوسف المحيميد، وزياد قاسم، ومحمود شقير، على موضوعات البداوة في أعمالهم، مقدّمين تفريعا مهما كبيرا على موضوعات المدينة، التي كان نجيب محفوظ أحد روادها، وقضايا العلاقة مع الآخر، مثل الطيب صالح وسهيل إدريس وأحمد إبراهيم الفقيه.
يقدّم عبد السلام العجيلي، في إحدى قصصه الشهيرة، شخصية شيخ درزي تقابل شابا سوريا ذاهبا للتطوع في الحرب ضد القوات الإسرائيلية، بعد إعلان تقسيم فلسطين عام 1948 (كما فعل العجيلي نفسه)، فيقدّم له الشيخ الدرزي تنبؤات مذهلة ومحبطة، عن مآلات الأمور اللاحقة، تتشابك فيها الخيانات مع المآسي والآلام الجمعية التي ستشهدها المنطقة فعلا، إضافة إلى العجيلي، قام كتّاب عديدون، بعد ذلك، بتناول البيئة الدرزية، كما فعل الروائي ممدوح عزام في روايته الشهيرة «قصر المطر»، التي تصور عودة أبناء محمد الفضل إلى ديارهم التي هجّروا منها عنوة على يد كنج الحمدان، زعيم قريتهم، المنارة، ووارث المشيخة فيها، ليصيحوا بصوت جماعي قرب بيتهم: مساء الخير يا دار، ماسّا عصبا مهما في الشخصية الدرزية التي طبعتها أقانيم الحرب، والهجرة، والحنين. يحرص عزام، في روايته أيضا على تقديم شخصية ثنيّة، وهي امرأة تلامس الأسطوريّ في خصالها.
يقدم الروائي اللبناني ربيع جابر، في روايته «دروز بلغراد» لتجربة مجموعة من الدروز الذين أسروا في بلغراد خلال الحرب العالمية الأولى، فاتحا المجال لدراسة جزء من تاريخهم كجماعة تحت الحكم العثماني، مستعيدا الأحداث التي تعرضوا لها خلال أحداث جبل لبنان الطائفية عام 1860. يعود الكاتب الأردني مجدي دعيبس، في روايته «قلعة الدروز» الى التاريخ مختارا فترة مفصلية في تأسس بلدان المشرق العربي، عبر حدث هروب عائلات درزية من منطقتهم في سوريا إلى واحة الأزرق في الأردن، ويحضر في الرواية، بشكل عرضيّ فحسب، ذكر العبيد الذين أعادوا بناء القلعة، يتطرّق كتّاب عرب آخرون، بشكل ضمنيّ، للدروز، كما فعل إلياس خوري في «مدارات الجنوب»، ورضوى عاشور في «الطنطورة».
من الداعية إلى الإرهابي!
ظهرت حركة «الإخوان المسلمين»، التي تعتبر أول الحركات الإسلامية من نوعها في العالم العربي عام 1928، وهو ما يجعلها متأخرة ست سنوات على تأسيس الحزب الشيوعي المصري (1922)، ولعلّ نجيب محفوظ، أول الروائيين العرب الذين قدّموا هاتين الشخصيتين معا في روايته، ذات الاسم المعبّر، «القاهرة الجديدة» (صدرت عام 1945). تلخّص رواية «عمارة يعقوبيان»، التي تجري من أواخر ثمانينيات إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي، التغيّرات الهائلة التي ضربت المجتمع المصريّ. تبدو شخصية الإسلامي في رواية علاء الأسواني أشبه بمعارضة تاريخية مقصودة لشخصية مأمون رضوان، في رواية محفوظ، فرضوان، من طبقة متوسطة (أبوه مدرس في المعاهد الدينية)، متفوق دراسيا، وقد أعطاه محفوظ صفات جمال بشري وأخلاقية «كان ذا عفة واستقامة وطهر لم يجتمع مثلها لشاب»، أما طه الشاذلي، فقد هبط اجتماعيا ليكون الابن المقهور لبواب العمارة، ورغم أنه، يتحدى الواقع، ويكون مثل نظيره في رواية محفوظ، متفوقا دراسيا، لكنّه يواجه أشكالا هائلة من الإحباط، بدءا من إمكانية ارتقائه بعدم كلية الشرطة على التحاقه، لأنه «غير لائق اجتماعيا»، وصولا إلى تخلّي خطيبته عنه (التي تقيم فوق السطوح!)، ثم انتهاك عرضه بعد القبض عليه في مظاهرة تنظمها جماعة إسلامية، ليتحوّل إلى «إرهابي» ينتقم ممن عذبوه، قبل مصرعه!
يظهر العرض التلخيصي الآنف وجود مشتركات سردية في «عناصر الاشتباك» الثلاثة التي أملتها أحداث تموز/ يوليو 2025 السورية، لكنّه، في الوقت نفسه، يظهر، «عناصر التفكك» الكبرى التي حكمت التاريخ العربيّ الحديث، ابتداء من شيفرات الهيمنة الرمزية، كما عبّرت عنها شخصية البدويّ طافش في «زنوج وبدو وفلاحون»، مرورا بمآسي الحرب والهجرة والصراعات الداخلية والخارجية في ميراث دروز بلاد الشام، وصولا إلى صراع الهويّات الهائل، الذي تشارك في صنعه، تأسيس إسرائيل، كدولة دينية ـ قومية ـ عرقية، والنزاع بين ضباط الانقلابات العسكرية، من العراق وسوريا ومصر، والإسلاميون، الذين تحوّلوا من حركة دعوية سياسية معتدلة، قابلة للازدهار والمشاركة في منظومات ديمقراطية، إلى حركات متشظية سلفية مسلّحة، مشغولة بالانتقام من قهر طويل.
كاتب من أسرة «القدس العربي»