ثقافة وفنون

فاسيلي كاندنسكي: عندما تتحول الألوان إلى موسيقى روحية

فاسيلي كاندنسكي: عندما تتحول الألوان إلى موسيقى روحية

مهدي غلاب

مضى الإثنوغرافي والطليعي الروسي فاسيلي كاندنسكي منذ بواكير القرن العشرين، بعيدا عن مجرد توظيف الريشة، إلى تحليل إشارات اللون والحركة والشكل. فاهتم ببناء تأملاته الروحية الداخلية واستلهام نظريات تتعلق بالعمق الداخلي للمعنى الفني التشكيلي. فتجاوزت الأفكار المطروحة مجرد الاستخدامات العملية والتقنيات المرتبطة بالمنجز التشكيلي. أدى اهتمامه البالغ بتأويل المنجز وانكبابه على دراسة اللّون إلى التّحرر من المفاهيم الفنية البصرية التي ظلت تمجد التطابق والوفاء والمثالية. تمكن بعد ذلك – مسلحا بإيمانه – في سباق مع الزمن وبعد مناظرات محمومة مع بعض الأسماء التي عاصرته، من المرور قدما إلى التنظير والتطوير المفهومي، ما يعني التخلي عن عدد من العناصر التقليديّة (الوفاء، التمثيل، المحاكاة، الانطباع، التأثير، الشعرية)، دون إلقاء الفرشاة أو التخلي ولو لفترة عن ممارساته والتزاماته كفنان تشكيلي مجدد على أرض الواقع، على الرغم من اختصاصه الأصلي في الحقوق والإنسانيّات، حتى قال عنه سيزان: «إنه فنان يفكر بعيونه».
انعكس هذا المسعى بالضرورة على التوجهات التشكيلية التي اتبعها، فمثل اهتمامه بالانطباع والتنقيط والانطباع الجديد عنصرا ملهما ومحركا معتبرا لتجاوز عصره واستدراج الأشكال المجسمة، ليحولها إلى خطوط متعرجة والصور الواقعية ليحولها إلى مساحات وأحجام منصهرة في ما بينها والألوان ليحولها إلى إيحاءات نغمية. وصل التحدي الذي فرضه توجهه المجدد إلى حدوث تنافس على أشده خاصة مع معاصره السويسري بول كلي منذ بدايات القرن العشرين. أدت هذه «الحاجة الداخلية» بتعبيراته إلى قلب المسار التشكيلي العالمي برمته، وشملت ثورة التغيير المفاهيمي مستويين اثنين:
الأوّل نظري: يتعلّق باستكمال مساره التأملي الفكري الذي طرحه انطلاقا من اعتماد الألوان والموسيقى (الفن النقي)، لتكون بداية تأسيس لنظرية إيمانية تخدم المقدس. يقول في هذا المجال: «الروح تترنم عندما نصل إليها مثل زهريّة ثمينة تُستخرج من عمق الأرض».

من الانطباع إلى التعبير الروحي للعمل الفنّي:

بقيت لوحة «انطباع، شروق الشمس» (1872) لكلود موني، التي تصور ميناء لوهافر على الساحل الغربي الفرنسي تجول في ذاكرة كاندنسكي، غير أن شدّة تأثره بالعمل وجاذبية الألوان جعلته يحول منجزه تدريجيا إلى صراع لانهائي لكتل لونية تتداخل في ما بينها دون حدود واضحة. تعلق الفنان بالتوجه التأثيري جعله يستنبط بعض اللمسات الفطرية في تثبيت الكتل السميكة على المحامل، باعتماد تقنيات سريعة، مع استعمل حصري للألوان الوهاجة مثل الأصفر والأحمر والبني. غير أن ميزته الرئيسية في هذه المرحلة تمثلت في التخلي عن الخاصية البانورامية في رسم المشاهد الطبيعية وتعويضها بالعمودية، وهو ما لم يسبقه إليه أحد. لم يدم هذا الاهتمام طويلا، حيث جذبه السحر والسر الداخلي المتناغم للون، فتخلى بذلك عن الجوانب الخطية التي تحدد الحقيبة اللونية. ما جعل المواضيع المختارة والمساحات المرسومة مندمجة والعناصر الشكلية منصهرة في ما بينها تبتعد شيئا فشيئا عن الواقع الحسي المعاش وتدخل غمار واقع روحي سام ارتكزت عليه أغلب أبحاثه.

تأثير الألوان في الشعور الداخلي للمتلقي:

إن ملامسة الروح عبر حيوية العمل الفني وانصهاره داخل الوجدان البشري بمثابة نقطة ضوء في ظلام رهيب. تبشر الإيحاءات الفنية شبه الرسولية لكاندنسكي أن الاهتمام بالعمل اللوني جدير بأن يحولنا من مادة جامدة (الفن التمثيلي) إلى ديناميكية دائمة (الفن التجريدي). هذا الفن وإن بدأ يتخلص من قدسيته عبر مساره التاريخيّ الطويل، أراد له كاندنسكي أن يعود من جديد ناطقا بالوحدة والكمال والضياء وهو تأثير لازمه حتى قبل انضمامه إلى جماعة الفارس الأزرق، خاصة مع أصداء حركة الأنبياء وتفاعلات مدرسة بربيزون الفرنسية، إضافة إلى التوجهات الباستورالية المستنبطة من الاختلاف والخضوع لعظمة الطبيعة والصمت والقدس. وردت مداولات وتأويلات مبحثه متوازنة ومعتبرة، ربطت بين المبحث النظري والمشغل الورشي، ما مكنه من إحداث شرخ وتحقيق إنجاز تاريخي بإنجاز أول لوحة تجريدية سنة 1910، سماها « أكوار يل تجريدي».
هذا التأويل والبحث الفني البصري المتكامل الذي اتبعه، أتى أكله بعد درس تباينات الكتل اللونية لاستخراج وإنتاج وحدة سامية عبر استثمار الاختلاف الملحوظ في الحقائب الثنائية التي قدمها، وهي عبارة عن معادلات رياضية أو مقاربات فكرية مطروحة لتحديد مسار مختلف ومصير جديد للفن البصري برمته ولاسيما الصباغة. من بين نماذج التدرج المتواصل لتجربة الروح نجد مقدمة ملخص تخطيط الألوان الوارد في كتابه «من الروحي في الفن وفي الصباغة بالخصوص»، نذكر تباين الأصفر والأزرق الذي يراوح ما بين الجسد (الأصفر) والروح (الأزرق) ويحيلنا إلى القرب والبعد والأرض والسماء، ثم تباين لون الصمود الأبيض مع الأسود الذي يراوح بين الولادة (الأبيض) والموت (الأسود)، وهما صمتان ممتزجان، مقابل البرتقالي والبنفسجي رمزا التحول والحركة بينما يبقى الأخضر بمثابة دلالة على الثبات والاكتفاء بالذات. أما الأحمر فهو لون الحركة بامتياز غير أن تقابله مع الأخضر يؤدي حتما إلى اللون الرمادي، هذا الأخير يتميز بتعقيدات تعكس الذات البشرية المترددة فكلما كان اللون فاتحا، تشكل الأمل المخفي، في حين كلما ازداد اللون قتامة، عبر عن سيطرة اليأس والخذلان، فالأحمر ساكن وموجود في الرمادي، ويعكس بمراوحته تقلبات وانقلابات كوامن النفس البشرية. يصف كاندنسكي مبحثه التأويلي بعملية استحضار شهية، حتى إنه تبعا لذلك، سمي بالفارس وبأمير الروح من طرف معاصريه ونقاده.

كاتب تونسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب