تركيا: أبعد من اعتقال أكرم إمام أوغلو

تركيا: أبعد من اعتقال أكرم إمام أوغلو
بكر صدقي
إذا كان اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، في 19 آذار الجاري، لأسباب قضائية بحتة كما تقول السلطة، فإن سحب شهادة الإجازة الجامعية منه قبل ساعات من ذلك لا يمكن رده إلا إلى محاولة إخراجه من التنافس على منصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات القادمة. فالدستور يشترط على من يود الترشح لهذا المنصب أن يحمل شهادة جامعية، علماً أنه حصل عليها قبل أكثر من ثلاثين عاماً. وتنظر قطاعات واسعة من الرأي العام في تركيا إلى أن إمام أوغلو هو المرشح الأقوى في مواجهة مرشح السلطة، باعتبار أنه فاز ثلاث مرات متتالية في الانتخابات المحلية على مرشح الحزب الحاكم الذي حدده أردوغان ودعمه بكل قوة. وكانت المرة الأولى في انتخابات آذار 2019 أمام منافسه بن علي يلدرم، وكان رئيساً للوزراء قبل ذلك، واعترض الحزب الحاكم وقتها على النتيجة بدعوى شائبة تزوير، فتمت إعادة الانتخابات وفاز فيها إمام أوغلو مرة أخرى مع زيادة كبيرة في عدد أصوات الناخبين الذين صوتوا لمصلحته. قيل يومها إن الناخب الاسطنبولي «قد عاقب» السلطة لأنها ألغت نتائج الانتخابات الأولى بلا وجه حق، بمعنى أن حملة السلطة قد ارتدّت عليها سلباً. وفي الانتخابات التالية، في آذار 2024، فاز إمام أوغلو بفارق كبير على منافسه الوزير السابق مراد قرم، ولم تقتصر خسارة السلطة على ذلك، بل خرج حزب الشعب الجمهوري من هذه الانتخابات أولاً في الترتيب بين الأحزاب المتنافسة في عموم تركيا بنسبة فاقت 37٪ من أصوات الناخبين، متقدماً على حزب العدالة والتنمية، بعدما اعتاد على نسبة لا تتعدى 25٪ في جميع الانتخابات السابقة بأنواعها.
هذه القفزة في شعبية حزب المعارضة الرئيسي كانت بمثابة جرس إنذار للحزب الحاكم والرئيس أردوغان اللذين يحكمان تركيا منذ 23 عاماً بلا انقطاع. فقد بات كل من حزب الشعب الجمهوري وأكرم إمام أوغلو منافسين جديين على كل من البرلمان والرئاسة لا بد من حسبان الحساب لهما، خاصة وأن الوضع الاقتصادي ما زال ضاغطاً على المواطن التركي ومن المحتمل أن يرتفع منسوب الاستياء الشعبي بسببه باطراد. ولكن بما أن سحب الشهادة من إمام أوغلو يكفي لإخراجه من المنافسة الرئاسية، إذا صح ما تقوله المعارضة بشأنه، فما هو مبرر تفجير ملفات طالت، إلى إمام أوغلو، رؤساء 6 بلديات فرعية في إسطنبول وعشرات من كوادر البلديات، يتهم فيها مع زملائه بقضايا فساد و«تقديم مساعدات مالية لمنظمة إرهابية» كما أعلنت النيابة العامة؟ كذلك ما هو مبرر تطويق مقر إقامة إمام أوغلو بعدد هائل من عناصر الشرطة التي قامت بتفتيش البيت واقتياد الرجل إلى الحجز في موعد السحور؟ في حين كان يمكن استدعاؤه إلى النيابة لأخذ إفادته كما يحصل عادةً بدون حاجة إلى توقيف.
تأثرت البورصة وسوق صرف العملات تدهوراً كبيراً بسبب هذه الأحداث، ويقدر خبراء الاقتصاد خسائر في قيمة الشركات والمصارف بمئات مليارات الليرات التركية
ولم تخرج ردة فعل قيادة حزب الشعب الجمهوري على هذه العملية عما هو متوقع، فقال زعيم الحزب أوزغور أوزال إن هدف الاعتقال سياسي ويتم تنفيذه بواسطة القضاء الذي اتهمه بالتبعية للسلطة التنفيذية، ودعا أنصار الحزب إلى التجمع أمام مقر بلدية إسطنبول تضامناً مع إمام أوغلو. وتجمعت أعداد فاقت التوقعات وتحولت إلى حركة احتجاجية كبيرة لم تقتصر على أنصار الحزب في مختلف المدن التركية، بل شملت جيلاً فتياً في الجامعات عرف بأنه ينفر من السياسة ويهتم بشؤونه الخاصة. وتكررت الاحتجاجات كل يوم على رغم تطويقها من الشرطة ومحاولة تفريقها باستخدم خراطيم المياه أو الغاز المسيل للدموع في بعض الحالات. كذلك أوقفت السلطة بعض خطوط المواصلات لقطع الطريق أمام انضمام مزيد من المحتجين، وحظرت بث المظاهرات في القنوات التلفزيونية تحت طائلة سحب الترخيص، وأدت احتكاكات بين متظاهرين وقوات الشرطة إلى توقيف مئات منهم في مختلف المدن التركية، بينهم صحافيون يغطون الحدث.
ترى هل فوجئت السلطة بحركة الاحتجاجات؟ هذا مستبعد بالنظر إلى حجم العملية التي استهدفت حزب الشعب الجمهوري من خلال بلدياته التي فاز بها قبل أقل من عام، وبالنظر إلى أن الحزب يشعر بقوته، بعد فوزه الكبير في الانتخابات المحلية، وبقدرته على الفوز بالسلطة السياسية في أول انتخابات عامة ورئاسية قادمة. بل هو يستعد لانتخابات مبكرة ربما خلال أقل من عامين. وجرت نقاشات داخلية بشأن اختيار مرشحه لمنصب الرئاسة، فحدد موعداً لانتخابات تمهيدية لاختيار مرشح. وقد جرت هذه الانتخابات، يوم الأحد 23 آذار، في ظل الحملة القضائية على إمام أوغلو وزملائه، فأضاف الحزب صندوقاً لعامة الناخبين في حركة رمزية للتضامن مع إمام أوغلو الذي كان المرشح الوحيد في هذا الاستفتاء الحزبي والشعبي. وشهد هذا الاقتراع غير الملزم إقبالاً فاق كل التوقعات بلغ، وفقاً لتقديرات الحزب، أكثر من 15 مليوناً.
وقد تأثرت البورصة وسوق صرف العملات تدهوراً كبيراً بسبب هذه الأحداث، ويقدر خبراء الاقتصاد خسائر في قيمة الشركات والمصارف بمئات مليارات الليرات التركية، وهبوط حاد لقيمة الليرة التركية أمام العملات الصعبة، تمكن المصرف المركزي من لجمه بعض الشيء من خلال طرح نحو 26 مليار دولار في الأسواق، بعدما تمت مراكمتها خلال سنتين من سياسة ضبط التضخم، وعلق الخبير الاقتصادي مهفي أيلمز على ما حدث بالقول إن تركيا قد عادت سنتين إلى الوراء.
يفسر بعض المحللين المحليين هذه المغامرة التي كان يمكن تجنبها بأن هدف السلطة يتجاوز شخص إمام أوغلو ليصل إلى حزب الشعب الجمهوري نفسه، ويدللون على ذلك بوجود دعويين قضائيتين يهدفان إلى إلغاء نتائج كل من المؤتمر العام للحزب الذي انتخب فيه أوزغور أوزال رئيساً للحزب خلفاً لكمال كلجدار أوغلو، ومؤتمر منظمة إسطنبول الذي جدد قيادة المنظمة المحلية، بدعوى شائبة شراء أصوات. فإذا ثبتت صحة هذه الاتهامات يتم تعيين وصي على كل من الحزب ومنظمته المحلية، كما يتيح القانون، على غرار الأوصياء الذين تم تعيينهم على رئاسات بلديات عديدة لحزب المساواة والديمقراطية (الكردي) طوال السنوات السابقة، ويتكرر الآن مع حزب الشعب الجمهوري. وربما تدفع السلطة الصراع إلى نهاياته وصولاً إلى إغلاق الحزب، مستغلةً تنامي الحركة الاحتجاجية برغم قرار وزارة الداخلية بمنع التجمعات، باعتبار ذلك إخلالاً بالنظام العام.
لا يتوقع أحد ردود فعل دولية كبيرة على هذه الأحداث الداخلية في تركيا ما لم تخرج حركة الاحتجاجات عن السيطرة. على العكس ظهرت إشارات مشجعة من واشنطن والاتحاد الأوروبي بصدد حاجتهما إلى تركيا فيما خص ملفات ساخنة كغزة وأوكرانيا وسوريا وإيران. لكن هذا يحتاج إلى تناول مستقل.
كاتب سوري