مقالات

حين يموتُ المُؤرِّخُ… وتبقى غزّة تكتُبُ المأساة! بقلم محمود كلم

بقلم محمود كلم

حين يموتُ المُؤرِّخُ… وتبقى غزّة تكتُبُ المأساة!
بقلم محمود كلم
في لحظةٍ كان فيها الدخان الأسود يتصاعد من الضاحية الجنوبية في بيروت، والجمر يشتعل في قرى الجنوب اللبناني، رحل شيخ المؤرخين العرب بصمتٍ لا يليق إلا بالعظماء، بصوتٍ أخفض من وقع القنابل، لكنه أثقل من صمت العالم. رحل الدكتور نقولا زيادة، عن عمرٍ يناهز القرن من الحكايات، عن تاريخٍ لم يكتبه، لا لأنه نسي، بل لأنه آلمه أكثر من أن يُروى.
رحل ابن الناصرة، الفلسطيني الشامي اللبناني، دون أن يترك لنا صفحاتٍ عن النكبة، ولا فصولاً عن المجازر، ولا سطوراً عن المجاعة التي فرضها الحصار… ربما لأنه أدرك أن هذه البلاد – فلسطين – لا تُكتب بالحبر، بل بالدم.
اليوم، لا نحتاج إلى قراءة تاريخ فلسطين، لأنه يُكتب الآن في غزة، كل ساعة، كل دقيقة، على جبين طفلٍ تاهت عائلته تحت ركام البيوت، في صرخة أمٍّ تحفر بأظافرها بين الأنقاض.
فغزة – كما فلسطين – لا تموت، بل تتجدّد في الحصار، وتولد من الرماد، كالعنقاء: عنيدة، متمردة، لا تركع.
غزة اليوم لا تحتاج إلى مؤرخ، بل إلى شاهد. وغزة ليست بحاجة إلى كتب، فكل حجرٍ فيها صار وثيقة، كل جدارٍ مهدوم صار شهادة، كل عصفور مرّ فوق البحر المشتعل صار رسولاً، وكل طفلٍ رفع يده للموت وقال: “أنا هنا”، كتب فصلاً جديداً من كتاب البطولة الذي لم يُكتب بعد.
رحل نقولا زيادة، ولم يؤرّخ للقضية الفلسطينية، لكن غزة كتبتها، وما زالت تكتبها: بدماء الشهداء، بدموع الأمهات، بصبر الآباء، بأحذية الأطفال التي تُترك قرب الأنقاض كعلامات استفهام.
سألوه: لماذا لم تكتب تاريخ القضية؟
فأجاب: لا أدري… ربما لأن الزعماء لم يفهموا.
نعم، لم يفهموا، وربما لا يريدون أن يفهموا حتى اليوم، لأن فهم القضية يعني أن تتخلى عن الزعامة، وأن تصبح خادماً للشعب، لا سيداً عليه.
غزة فهمت أن الطريق إلى الحرية مفروشٌ بالحصار، والدم، والعتمة، وبالأمل العنيد.
فهمت أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الهزيمة مستحيلة ما دام فينا طفلٌ يرسم علماً على جدارٍ مهدوم، أو فتاة تكتب في دفترها: “سأكبر، وسنعود.”
غزة اليوم هي التاريخ الذي لم يكتبه نقولا زيادة، هي الامتداد الطبيعي لذاك الطفل اليتيم في دمشق، الذي خاف الفقر أكثر من الموت. غزة اليوم تُجسّد تلك العبارة: “هذا كلّ ما معنا.”
نعم، لا تملك غزة إلا الكرامة، وهذا يكفي. وهذا هو المجد كله.
فليكتب العالم ما يشاء، ولينشروا ما يحلو لهم من روايات.
لن يغيّروا شيئاً.
لأن غزة… لا تُهزم. الموت فيها لا يعني النهاية، بل البداية.
والصمت فيها ليس خوفاً، بل كبرياء.
وغزة، كالدكتور نقولا زيادة، قد تختار أحياناً ألّا تكتب، لكنها لا تنسى.
وغزة، كما التاريخ، لا ترحم الغافلين.
وسيُقال بعدنا: كانت هناك غزة… وكانت هناك نار… وكان هناك شعبٌ لا يُقهر.
وسيفهمون، كما لم يفهم الزعماء من قبل، أن هناك قضايا لا تُؤرَّخ بالحبر… بل بالدم الذي لا يجف.
وهكذا يمضي العمر الفلسطيني بين أنقاض البيوت وخرائط المنفى، بين طفولةٍ تُسرق قبل أن تُزهر، وأحلامٍ تُقصف قبل أن تولد. لا تزال فلسطين تكتب وجعها بدم الشهداء، وتُلملم جراحها كلما نزفت، وتنهض من تحت الركام لتقول: “ما زلت هنا.”
واقعنا الفلسطيني ليس مشهداً عابراً في نشرة أخبار، ولا قصة من الماضي تُروى، بل هو وجع يوميّ، حياة محاصرة، وطن ينتظر العودة بلا مواعيد.
لكننا – رغم كل شيء – لم نُهزم.
ربما نسقط، لكننا لا ننكسر. ربما نبكي، لكننا لا نستسلم. نحن أبناء الأرض التي علّمت الزيتون أن يصبر، وعلّمتنا كيف نُولد من الرماد. نحن حكاية لا تنتهي، وقضية لا تموت، ووجعٌ لا يُنسى.
فلسطين ليست مجرد وطن… إنها الجرح والكرامة، النكبة والصمود، الموت والحياة معاً.
وفي هذا الواقع الذي لا يرحم، يبقى الفلسطيني واقفاً، يحرس ذاكرته، ويقاوم… فقط لأنه يؤمن أن النصر، مهما طال الليل، لا يُهزم.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب