ثقافة وفنون

الفيلم الدنماركي «الأرض الموعودة»… ما بين الحب وتحقيق الذات

الفيلم الدنماركي «الأرض الموعودة»… ما بين الحب وتحقيق الذات

مجدي دعيبس

بعد فيلم «نزوة ملكية» الحاصل على جائزتين في مهرجان برلين السينمائي عام 2012، يطل علينا المخرج الدنماركي نيكولاج أرسيل بفيلمه الجديد «الأرض الموعودة»، وهو من بطولة مادس ميكلسن (لودفيج كيلين)، وأماندا كولن (آن باربرا)، وسيمون بينبريج (دي شينكل). يحكي الفيلم قصة النقيب الدنماركي المتقاعد لودفيج كيلين الذي يسعى لإنشاء مستوطنة في البرّ الدنماركي، وبالتحديد في منطقة غوتلاند القاحلة التي لا تصلح للزراعة، على الرغم من محاولات كثيرة باءت بالفشل. براري منبسطة تنبت فيها أعشاب عنيدة تأقلمت مع هذا الرحم الفاسد.
عملية استصلاح مرهقة بعد إجراء مسح لنوعية التربة في بقع مختلفة ليتبيّن وجود تربة تصلح لزراعة البطاطا التي أحضرها معه من ألمانيا، حيث كان في الخدمة العسكرية. لم تكن البطاطا معروفة في الدنمارك في القرن الثامن عشر (1755)، لكن النقيب كيلين عرف أنها لا تحتاج لتربة خصبة وأنّ الصقيع يقضي عليها. من هذه الفكرة البسيطة والرغبة بالنجاح بنى أحلاما كبيرة بإنشاء مستوطنة وحياة جديدة في براري شاسعة وموحشة.

لقب نبيل

كان يحلم بالحصول على لقب نبيل لتحسين وضعه الاجتماعي، لكن كيف لرجل كانت أمه تعمل خادمة لدى أحد النبلاء، أن يسعى لهذا الأمر وسط مجتمع له عادات وتقاليد راسخة. وكما يحدث في مناسبات كثيرة يقوم هذا النبيل بالاعتداء على الخادمات أو إجبارهن على النوم معه، وهذا ما حدث مع أم لودفيج كيلين، الذي تحوّل في النهاية إلى لقيط آخر من لقطاء النبيل، الذين لم يعترف بهم. رفض مجلس الحكم منح لودفيج أي مساعدة مالية لإنجاز مشروع المستوطنة، لعدم الاقتناع بجدوى الأمر، لكنّ لودفيج أصرّ على المضي بمشروعه على نفقته الخاصة، وفي المقابل طلب منحه لقب نبيل إذا نجح في مسعاه.

صراع بقاء

كانت حبكة الفيلم تتمحور حول قرب هذه المستوطنة من ضيعة وأملاك النبيل دي شينكل، الذي يرفض وجود أي مُلكية لا تخضع لسيطرته لإنها في المحصلة ستؤثر على هيمنته، وعلى مراكز الثقل في المنطقة. حاول بشتى السبل إقناع كيلين الذي أظهر صلابة وعنادا، في رفض التهديدات والإغراءات على حدّ سواء. يقنع دي شينكل العمال بترك كيلين فيلجأ الأخير للغجر الذين يتركونه بدورهم، بعد حين عندما يدركون قوة خصمه وسيطرته. لم يكن دي شينكل الطرف الوحيد الذي واجهه كيلين في هذا الصراع المرير، بل كان هناك أيضا الصقيع الذي كاد يقضى على موسم البطاطا بأكمله. لاحقا ينجح الأمر ويرسل كيلين البطاطا التي أنتجها من حقله إلى مجلس الحكم ليثبت لهم نجاعة مشروعه في مطاردة حثيثة لحلمه بالحصول على لقب نبيل.

قسوة أم جنون

دي شينكل الذي يمثّل طبقة النبلاء في ذلك العصر بتعجرفهم وتكبّرهم وطيشهم، يُظهر قسوة مفرطة بتعذيب أحد الذين كانوا يعملون لديه (يوهانس) لأنّه ترك العمل وفرّ بزوجته التي كانت تعاند تحرّشات سيدها. أمر بجلده بقوة حتى تشقّق جلده، ثم حبسه في صندوق حديدي تحت مستوى سطح الأرض وصبّ عليه ماء مغليا لتسلية ضيوفه. صرخ من شدّة الألم ثم مات. وفي مشهد أكثر جنونا في لحظة غضب يدفع إحدى الخادمات لتسقط من النافذة وتموت على الدرج الخارجي. يتكرّر مشهد الجلد مع لودفيج كيلين عندما يقبض عليه بتهمة قتل ضابط دنماركي، لكن قبل أن يصبّ عليه الماء المغلي تدبّر آن باربرا لاستدراجه إلى غرفة قريبته إيدل هيلين وتضع له مخدّرا في النبيذ، وقبل أن يفقد وعيه تماما تطعنه أسفل بطنه عدة طعنات قاتلة ثم تقطع عضوه الذكري وتطرحه جانبا قبل أن يقبضوا عليها. في لحظات دي شينكل الأخيرة وسط بركة من الدماء لا أحد يقترب منه من المساعدين والخدم في إشارة إلى أنّهم لا يتّفقون مع قسوته أو جنونه.

الخرافة

يقارب الفيلم أيضا موضوعة الغجر في الدنمارك في القرن الثامن عشر، وعلى إثر هذا بحثت في الإنترنت عن وجود الغجر في أوروبا، إذ لم أتوقع أنّ يكون لهم حضور ملموس في الدنمارك، وتبين أنّ لهم وجودا في كل الدول الأوروبيّة بنسب متفاوتة، لكن النسبة الأعلى في رومانيا. كانت الفكرة السائدة لدى الدنماركيين أنّ الغجر يجلبون النحس والشر، لذلك كانوا يعيشون في مجتمعات منغلقة ومنزوية، وحسب القانون لا يحق لهم العمل لدى الآخرين. تنشأ علاقة إنسانية بين الطفلة الغجرية أنماي موس وكيلين، لكنّه في لحظة ما يتخلّى عنها عندما يصرّ المستوطنون على أن تغادر قبل أن يقدّموا له العون في الاقتصاص من قتلة فتاتين وفدتا مؤخرا إلى المستوطنة. وهنا ندرك أن النقيب لودفيج كيلين مصمم على تحقيق هدفه مهما كان الثمن أو الظرف المرافق، وظهر هذا أيضا عندما اختار ذبح العنزة الوحيدة لديهم على أن يتخلّى عن بعض حبّات البطاطا المخصّصة للزراعة.

أفضل ممثل

عُرض الفيلم في مهرجان البندقية السينمائي عام 2023 ونافس على الأسد الذهبي وحصل على جائزة أفضل تصوير سينمائي أوروبي وجائزة أفضل تصميم أزياء أوروبي وجائزة أفضل ممثل، نالها مادس ميكلسن، وليس هذا بالأمر المستغرب بعد الأداء القوي الذي قدّمه ميكلسن في تجسيد شخصية لودفيج كيلين العنيد القوي المثابر الحكيم المتهور العاشق الذي تخلّى في النهاية عن كل شيء حلم به وتبع قلبه.

الأوسكار

اختارت الدنمارك فيلم «الأرض الموعودة» ليمثلها في الأوسكار عن جائزة أفضل فيلم أجنبي، ولكنه لم يصل إلى القائمة النهائيّة التي يحصل أحدها على الأوسكار مع أنّه يشتمل على جرعة دراما عالية وفيه بعد إنساني واضح، والأهم من هذا أنّه يثير فينا تساؤلات حول المغزى والثيمة؛ هل هو حول علاقة الإنسان بالأرض، أم بالنجاح وتحقيق الذات؟ متى يصل الإنسان إلى هذه النقطة بالتحديد؟ أقصد بعد كل هذه المعاناة وكل هذه التضحية لإنشاء المستوطنة والحصول على لقب نبيل يتخلّى عن كل شيء ويحرّر آن باربرا من السجن ويأخذها إلى مكان بعيد، لكن هل كان هذا بدافع الحب أم الواجب والمروءة، على أساس أنّ باربرا قتلت دي شينكل لإنقاذ كيلين من الموت؟ ربما يكون هذا الأمر متروكا للمشاهد ليأخذ من الفيلم ما هو قريب من شخصيته وقيمه.
في رأيي، المنافسة كانت شديدة في الأوسكار على فئة الفيلم الأجنبي، وعدم الوصول إلى القائمة النهائيّة لا ينفي جودة «الأرض الموعودة».
كاتب من الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب