
فيلم غاتسبي العظيم: صورة للمجتمع بين الطموح والزيف

زيد خلدون جميل
عرض فيلم غاتسبي العظيم The Great Gatsby عام 1974 وكان نجميه روبرت ريدفورد وميا فارو. وكان الفيلم مأخوذا من رواية بالاسم نفسه للكاتب الأمريكي أف. سكوت فتزجيرالد نشرت عام 1925، أي قبل مئة عام. ولكن عمر الرواية الطويل لم يكن ليعيقها، إذ تعد الرواية حاليا الأبرز في تاريخ الأدب الأمريكي. وقد بيع منها ثلاثون مليون نسخة حتى وصل عدد النسخ المباعة إلى نصف مليون كل عام، وأصبحت ضمن منهج طلاب المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تزال تنال التقدير الكبير من قبل النقاد. وقد انتجت أربعة أفلام مبنية على أحداث هذه الرواية، وكان الأقرب إليها ربما الفيلم الذي أنتج عام 1974 على عكس الفيلم الذي يتذكره القراء، والذي مثله ليوناردو دي كابريو وعرض عام 2013.
أحداث الفيلم
ينتقل الشاب «نيك كاراوَي» (سام وترستن) إلى منزل صغير بالقرب من قصر قريبته «دَيزي» (ميا فارو) وزوجها توم (بروس درن) الثري والرياضي السابق. وكان جاره المباشر شاب غامض بالغ الثراء يدعى «غاتسبي» (روبرت ريدفورد)، الذي يقيم حفلة هائلة في نهاية كل أسبوع، يحضرها جميع شخصيات وجميلات المدينة. وكانت الكثير من القصص تقال عن ذلك الشاب ومصدر ماله وأصوله الاجتماعية. ويكتشف «نيك» أن زواج قريبته يعاني من مشاكل وأن زوجها، توم، على علاقة بامرأة تدعى مرتل متزوجة من ميكانيكي فقير يعمل في محطة لبيع وقود السيارات. ويذهب «نيك» وزوج قريبته وعشيقته إلى شقة تعود إلى الزوج، حيث تقام حفلة ماجنة، إلا أن الزوج يضرب عشيقته ويدمي أنفها عندما تذكر اسم زوجته. وتحاول القريبة «دَيزي» ان تقرب «نيك» من صديقتها الجميلة «جوردن»، لاعبة الغولف الشهيرة.
يستلم «نيك» دعوة مفاجئة من جاره «غاتسبي» لحضور إحدى حفلاته. ويحضر «نيك» مع «جوردن» الحفلة، ويندهش لفخامتها وتصرفات المدعوين الماجنة. ويأتي أحد الحراس المسلحين إلى «نيك» طالبا منه القدوم معه. ويشعر نيك بالصدمة، ويؤكد أنه استلم دعوة، ولكن الحارس يصر، فيذهبان إلى مكتب فخم في المنزل، وإذا به يجد نفسه أمام «غاتسبي» الذي كان بمنتهى اللطافة وطلب أن يتناولا الغداء معا في اليوم التالي. ويذهب الاثنان إلى أحد المطاعم في اليوم التالي، حيث يقابلون شريك «غاتسبي» الذي كان من كبار رجال العصابات ومحتالا بارزا.
تزور «جوردن» «نيك» في محل عمله وتطلب منه دعوة قريبته دَيزي دون إخبارها أن غاتسبي سيكون هناك أيضا، ويفعل نيك ذلك. وتفاجأ «دَيزي» بوجود «غاتسبي»، كما يكتشف «نيك» أن الاثنين كانا عشيقين قبل ثمانية سنوات ألا أن دَيزي رفضت الزواج منه لأنه كان فقيرا. وتبدأ علاقة غرامية بين الاثنين، على الرغم من تأكيد «نيك» لـ»غاتسبي» أن عليه نسيان الماضي لعدم وجود إمكانية لإعادته، ولكن الثاني لا يؤيده.

فيلم غاتسبي العظيم: صورة للمجتمع بين الطموح والزيف
يتناول الجميع مع «غاتسبي» الغداء في منزل «دَيزي» ويقررون الذهاب إلى أحد الفنادق الفخمة في المدينة، فيأخذ «توم» سيارة «غاتسبي» الصفراء بينما يأخذ «غاتسبي» سيارة توم الزرقاء، ويتوجهان إلى هناك. وهناك يكتشف «توم» علاقة زوجته بـ»غاتسبي» الذي يطلب منها إبلاغ «توم» أنها لم تحبه يوما، إلا أنها ترفض وتقول إنها أحبتهما معا، مما يغضب «توم»، فيأخذ «غاتسبي» دَيزي ويتوجهان إلى منزله بسيارته. وعندما يعود «توم» مع «نيك» و»جوردن» يكتشف أن عشيقته مرتل قد قتلت في حادث سير، حيث دعستها سيارة صفراء، فاستنتج أن «غاتسبي» كان القاتل. ولكن «نيك» يكتشف أن السائق كانت «دَيزي» وأخبره «غاتسبي» أنه سيتحمل المسؤولية كاملة كي لا تقع دَيزي في مشكلة.
يذهب الميكانيكي، زوج القتيلة، إلى منزل «توم» لينتقم منه، لاعتقاده أن «توم» من كان يقود السيارة الصفراء إلا أن «توم» يخبره أن السائق كان «غاتسبي»، فيذهب الميكانيكي إلى منزل «غاتسبي» ويقتله من الخلف ثم ينتحر. لا يحضر جنازة «غاتسبي» أحد سوى «نيك» ووالد القتيل الذي يخبره أن اسم العائلة الحقيقي غاتز. أما «دَيزي» وزوجها «توم» فيتصرفان وكأن شيئا لم يحدث. ويقرر «نيك» ترك المنطقة، ويشعر بالحزن على «غاتسبي» لمحاولته إعادة الماضي.
تحليل الرواية
الفكرة الأساسية التي كان المؤلف فتزجيرالد يريد طرحها، أن محاولة إعادة الماضي شيء مستحيل. ولكن الفيلم عانى من مشاكل. وكانت المشكلة الأولى التي يواجهها المشاهد الذي يعرف الولايات المتحدة جيدا، أن الرواية غير منطقية، وقد أشار إلى هذا الكثير من النقاد، عندما نشرت الرواية، مما أثار غضب المؤلف الشهير، إذ قال إنها رواية رمزية، ولكن عن ماذا كانت ترمز؟ الرواية في الحقيقة مجموعة من المظاهر البارزة في المجتمع الأمريكي في تلك الحقبة، وتجارب قاسية مرّ بها المؤلف نفسه، حيث إن كل شخصية في الرواية والفيلم مأخوذة من شخصية حقيقية عرفها المؤلف سكوت فتزجيرالد. ولفهم الأمر جيدا علينا أن نعرف أكثر عن المؤلف نفسه، فعندما كان في الصف الأول من جامعة برنستن الشهيرة، وفي سن الثامنة عشرة هام حبا بفتاة في السادسة عشرة من إحدى العوائل البالغة الثراء، في منطقة جزيرة رود الأمريكية. وبسبب تلك الفتاة حضر فتزجيرالد الحفلات الصاخبة والماجنة للعوائل الثرية. ولكن سعادة فتزجيرالد لم تدم، إذ ما أن شعر والد الفتاة بالحب بين العاشقين، حتى منع فتزجيرالد من مقابلة ابنته قائلا له، الفتيات الثريات لا يتزوجن الفتيان الفقراء، ثم قام بتزويجها من ابن شريكه في العمل. وقد رأينا كل هذا في الفيلم، فـ»غاتسبي» مثل فتزجيرالد الحقيقي بينما مثلت «دَيزي» الفتاة الثرية التي عشقها فتزجيرالد، وكان «توم» يمثل زوج عشيقته المراهقة ولكن المؤلف وضع شخصية أخرى تمثله، ألا وهي «نيك» الذي يساعد «غاتسبي» في مسعاه دون أن نعرف السبب. والرواية في الحقيقة عن توقع من قبل المؤلف عن ماذا كان سيحدث إذا عاد هو إلى عشيقته كرجل ثري، ومن الواضح انه لم يكن متفائلا. ولكن فيتزجيرالد أراد كذلك أن ينتقد الطبقة الثرية التقليدية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الطبقة بشكل عام من أصول بريطانية. ولذلك جعل الشاب الثري العائد إلى محبوبته يدعى غاتسبي أو غاتز، أي من أصول ألمانية، وقد كون ثروة هائلة من تهريب الكحول في فترة منعه في البلاد، ويعني هذا أنه من الأثرياء الجدد. وبذلك، أظهر فيتزجيرالد أن الطبقة الثرية التقليدية تحتقر، الذين ليسوا من أصول بريطانية وقد أصبحوا أثرياء مؤخرا، بل إن توم في الفيلم يظهر احتقاره حتى للذين هم من أصول افريقية، بالإضافة إلى ذلك نجد «توم» يحتقر عشيقته ويضربها، لأنها تفوهت باسم زوجته في حفلة صاخبة في شقته، فهي من أصول فقيرة لا تستحق الاحترام بالنسبة له. وللسبب نفسه نجد في الرواية والفيلم أن شخصين فحسب حضرا جنازة «غاتسبي»، أي والد القاتل و»نيك»، فقد كان مهما بالنسبة لهم في حياته لإقامته تلك الحفلات الماجنة وعمله التجاري غير القانوني، فما أن توفي حتى أصبح عديم الأهمية وطواه النسيان.
كان على المؤلف فيتزجيرالد أن يتمتع بخيال أخصب من ذلك، كي يجعل الأحداث متناسقة ومنطقية، فمثلا نرى «غاتسبي» يقيم حفلة عملاقة في نهاية كل أسبوع كي يجذب انتباه «دَيزي»، بينما يكون هذا الشخص في الحقيقة حلم كل فتاة في المجتمع. ولذلك يبدو «غاتسبي» وكأنه يقوم بتحد طفولي أكثر مما هو في حالة حب. وأما حكاية تبادل السيارات عند ذهاب الجميع إلى المدينة، فكانت مفتعلة بوضوح ولتعليل دعس العشيقة بالسيارة، الذي كان غير منطقي. وكذلك بالنسبة لحادثة الدعس، فطالما هنالك شهود أقروا بأن السيارة كانت صفراء، فرجال الشرطة كانوا سيتولون الأمر، ولكن فتزجيرالد نسي أن هنالك قوات شرطة في المدينة وجعل زوج العشيقة الفقير يذهب إلى «توم» لينتقم منه لزوجته بنفسه، إلا ان الزوج كان باردا إلى درجة أن يستمع إلى «توم» الذي اتهم «غاتسبي» بذلك وصدقه. ولكن الزوج لسبب ما لم يعطِ «غاتسبي» المسكين هذه الفرصة فأرداه قتيلا فورا. وطالما أن الزوج قتل الشخص الخطأ لأن من قاد السيارة ودعس زوجته كان «دَيزي»، فيجب أن يعاقب عقابا شديدا. وكان الحل بالنسبة للمؤلف أن ينتحر الزوج الفقير وينتهي الأمر. وتدل كل هذه المتناقضات على أن المؤلف الكبير سكوت فتزجيرالد لم يتمتع بخيال غزير.
من الضروري الإشارة إلى شخصية دَيزي الغريبة، فهي تقيم علاقة غرامية مع «غاتسبي»، وفي الوقت نفسه تذكره بأن الفتيات الثريات لا يتزوجن الفتيان الفقراء. وفي الوقت نفسه تعترف بعلاقتها الغرامية مع «غاتسبي» لزوجها وتضيف أنها تحب الاثنين، أي أنها المرأة التي تريد الاستفادة من الكل، دون أن تضحي بشيء أو تتحمل أي مسؤولية. ويضاف إلى ذلك أنها تقوم بقتل عشيقة زوجها، ونسيان الأمر تماما، حيث تستمر في حياتها وكأن شيئا لم يحدث. هل كان فتزجيرالد ينتقد «دَيزي» أم اعتبر تصرفها وكونها فوق المسؤولية شيئا طبيعيا؟
تعود شعبية الرواية لعدة أسباب، فهي عن عالم الأثرياء الذي طالما أعجب بهم الجميع، لأنهم يريدون أن يكونوا مثلهم، وفي الوقت نفسه تُنتقد تصرفاتهم، إذ يكرههم الناس، حسدا وخوفا من بطشهم في جميع أنحاء العالم، لاسيما أن أغلب الناس يعدونهم سبب مشاكل المجتمع. وتكشف الرواية عن كون مصادر ثروة بعضهم غير قانونية وأن عيوب شخصياتهم كثيرة. وإذا كانت تلك الطبقة موجودة في العشرينيات، فهي ما تزال موجودة مع حفلاتها الصاخبة وقوتها البالغة. وامتدح الكثير من النقاد الأسلوب الشعري الرائع للمؤلف في كتابتها. وتشير الرواية أيضا إلى المجتمع الأمريكي الذي يظنه الناس عديم الطبقات بينما توجد هذه الطبقات بوضوح، كما تتناول الرواية عدة جوانب من الحياة التي يعاني منه كل شخص مثل الطموح والهوية والفشل الذريع والحب، ومحاولة إعطاء انطباع مبالغ به لإبهار الآخرين مثل غاتسبي الذي كان يحاول جاهدا البروز في المجتمع. وفي نهاية المطاف نجد أن غاتسبي العظيم لم يكن عظيما.
تطور شهرة الرواية
كان فتزجيرالد متفائلا عندما نشرت الرواية عام 1925، حيث ظن إنها ستجعله أعظم روائي أمريكي. ولكن استقبال الجمهور كان فاترا، ولم يكن بعض النقاد الكبار معجبين بها. ولذلك بيعت منها خمسة وعشرون ألف نسخة فقط. وتوفي سكوت فتزجيرالد عام 1940 عن أربعة وأربعين عاما، بائسا لإدمانه على الكحول في أغلب حياته، وظنه أنه فشل في مسعاه ليصبح كاتبا كبيرا. ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجئا، حيث قامت الحكومة الأمريكية عام 1942 بتوزيع مئة وخمسين ألف نسخة على الجنود الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية. وأخذ اهتمام الجمهور والنقاد يزداد بالرواية، حتى أعدت من قبل النقاد في السبعينيات، كأهم رواية في التاريخ الأمريكي وما تزال تتمتع بهذه الصفة. وتحولت الرواية إلى مسرحية ما تزال تعرض حتى الآن، بالإضافة إلى الأفلام التلفزيونية العديدة وحتى ألعاب الفيديو. وما تزال شهرتها في تزايد.
كاتب عراقي