ثقافة وفنون

«سارا» ديوانُ الانفعالات النفسيّة المتناقضة

«سارا» ديوانُ الانفعالات النفسيّة المتناقضة

نسرين بلوط

في كتابه «نظريّة في الانفعالات»، يتطرّقُ سارتر إلى وصف الانفعال بصفته تشويشا بلا قانون، لا يوجّهه سلوكٌ معيّن أو يخضع لرقابةٍ ما، وأنَّ الفينومينولوجيا قد عجزت عن تقديم البرهان الكافي بأنَّه تحقيقٌ أساسيٌّ للجوهر الإنساني لكونه عاطفة نابعة عن الإحساس، ممّا يولّد التوتّر بين الداخل والخارج للكيان الفردي، ويصعب تفهّم التفاعلات الفسيولوجيّة المتناقضة دون تدويرها وتحويرها لمعنى «انفعال» الذي يُستحالُ تفسيره على هذا النحو، ممّا يلقي عاتق التفسير على الوجدان المتعالي الذي يعني إدراك الذات بالصورة المنطقيّة بوجود الشرط الأساسي فيها، وهو عنصر «الأنا». ويدلّل في بحثه على مذاهب متعدّدة مثل مذهب هوسرل وهيدغر ويقيم المقارنة المنطقية بينهما، مظهراً الفرق الجليّ بين دراسة الطبيعة الإنسانيّة والدراسة النفسيّة المعمّقة للانفعال.
وفي ديوان «سارا» للشاعر ياسر بدر الدين، تغلب الماهية على الخلق الخيالي، ففي التدليل على الحبيبة نوعٌ من التخبّط الانفعالي، الذي يستمدّ مكوّناته من الطبيعة الرمزيّة، فنلمحُ فيه لوعةً تتراوحُ بين الحريّة في التعبير، والتقيّد في كبت المشاعر، ليصيبَ بعضَ المقاصد التعبيريّة ويغفلُ عن معظمها. كما يغضُّ الطرف عن التدقيق في التعبير، والمومَأ إليه، ليجازفَ فيحاصرَ نفسه بعناصر الجماليّات اللفظيّة، دون التماس خطوط التعمّق الشعوري، والتجديف المعنوي في عالم الرمزيّة والخيال، فتأتي قصائده على نسقٍ واحد، مع اختلاف التفاعل في الأحاسيس والانفعال في الصياغة والتوضيح. فهو يترافعُ عن قضيّة عشقه بولَه، غير أنَّه لا يطرقُ كالمطرِ بلّورَ هذا الحب، بل يلجأُ إلى التصريحِ المتعالي به من خلال انفعاله في التدليل عليه.
في قصيدة «يا لسارة»، يوجزُ بدر الدين في الوصف، ولكنّه يمعنُ انتحاراً بين الألفاظ غير المنطوقة، فكأنّه يستدعي الوحيَ من خموله ليبثّ فيه حياةً تدبّ بين أوصاله، فيقول مبدياً الانفعال، ومحجماً عن التريّث في تسطير الكلمات التي تجذبُ وتشدُّ الوجدان: «تسكنُ الدارَ معي عصفورةٌ/ فكأنّي معها في الجنَّةِ/ وهل الجنَّةُ إلّا طفلةٌ/ وهل الطفلةُ إلّا جنّتي؟/ أنا إن حدَّثتُ نفسي باسمِها/ يُزهرُ المنتورُ في أوردتي/ يسهرُ الليلُ على ضوءِ دمي/ وينامُ النجمُ في نافذتي/ كلّ فجرٍ نومُنا زقزقةٌ/ والعصافيرُ ضيوفُ الشرفةِ/ ترهِفُ القلبَ إلى زقزقةٍ/ من لمَاها أو صدى زقزقةٍ/ أسَرَتْها سارةُ في نظرةٍ/ فغدتْ هلكى بسحرِ النظرةِ/ أسكرَتْها سارةُ في لحنِها/ وأنا من سُكرِها في سَكْرَةِ/ يا لسارا وهي في ترنيمِها/ حُلمُ عصفورٍ غنُوجِ البُحَّةِ/ أيُّ موسيقى إذا سارا شدَتْ/ يا ابتهالَ الناي القيثارةِ».

إنّ ما يحدُثُ في الشعور لا يمكنُ أن يفسّرَ إلا بالشعور ذاته، كما يقول سارتر، فكلّ هذا الزخم الموارب الذي يستفيضُ في داخليّة الشاعر بدر الدين يغدو شعوراً منفعلاً ليمثّلَ رمزيّةً داخليّة، فهو يستمدُّ من الطبيعة موروثاتها الجميلة من الزهر والقمر والليل والنجم والزقزقة والغزل الشرقي القديم من عادات شعراء الجاهليّة الذين تغنّوا باللحظ والصوت واللحن، كي يرسمَ صورةً شاعريَّةً تتفوّقُ على شعوره الحقيقي بإحساس متماهٍ سابحٍ في الخيال، ولكنّه يغلو في انفعاله، فيستدعي المحالَ الذي يحضرُ عادةً بين يدي الشاعر بلا تكلّف، ولكنّه في حالته الخاصّة، تتداخلُ عناصرُ الوصف فتضيعُ القصيدةُ بين ضفَّة التعبير وضفَّةِ التوصيف، ليهيمَ منفرداً في هذا التعلّق الجنوني بالحبيبة، فيصبح التعبير عنه همًّه وشاغلَه الأوّل والأخير.
وقد تلعبُ الفينومينولوجيا الدورَ الظاهريَّ في الانفعال الدائم الذي يراوغُ قصائدَ بدر الدين، فنجدُه في قصيدة «فراشة» أكثرَ اعتماداً على حدسه الشعري للظواهر من حوله، ولا يأخذه التصدّع التكراري للتعبير، فتأتي عباراتُه منتقاة بطريقةٍ سلسة، ولا يستعيرُ من الميتافيزيقيا كما فعل في القصيدة السابقة، فيتجنّبُ الوقوعَ في فخّ السطحيّة في الخيال، ويجنحُ إلى إدراك الماهيات في جوهرها الأصيل، فيقول: «أسقُطُ في نارِ فراشهْ/ تأسُرُ في الألوانْ/ ويأخذُني طفلُ الضوءِ/ المتوهّجِ في العينين/ إلى ذهَبِ الأزهارْ/ تعدو بين القنديلِ وزهرِ الليلِ/ وترقُصُنا الأنهارْ/ أسقطُ في نارِ فراشهْ/ تشتعلُ الألوانْ/ تعبقُ في جدرانِ القلبِ/ وتَعلَقُ بالأوتارْ/ يغسلني الحبُّ الثلجيُّ/ وينثُرُني تحت الأمطار».
تتكرّرُ انفعالاتُ وخيالاتُ ياسر بدر الدين في باقي القصائد في مسارٍ أفقيّ يتعرّجُ ثمّ يستقيمُ من جديد، وقد يتركُ زمامَ إحساسه لهذا الشغف الطفولي، والتعلّق اللامحدود بالكتابة، التي يجدُ من خلالها متنفّساً عن كربٍ دفين يعاودُ محاورَ تلقائيّته الشعوريّة، وكأنَّ ادراكه الحسّي يتبلورُ من خلال هذا الانفصال الجزئي عن الواقع والانغماس في المحاولات الدائمة لنقل ذاتيّته إلى الخارج، فيدركُ شعورُه السحرَ الذي يغلّفُ الطبيعةَ والموجودات، ويستنبطُ من ديوانه «سارا» عالماً جديداً، يعجزُ عن الغوصِ فيه في الواقع.
فهذا التناقض في الانفعالات هو وسيلةٌ لتفادي ألماً ما يسكنُ أعماقَه، أو كما وصف سارتر «وسيلة لتفادي شيء معيّن، هو مهربٌ خاص وحيلةٌ معيَّنة».
وربّما يكونُ هذا الهروب دليلاً على أنَّ الانفعال يواكبُ الشعورَ الباطني لمشكلةٍ أو عقدةٍ فرديّة لدى الشاعر، يفكُّ من خلاله أسر واقعه ويفرُّ منه إلى دنيا تتداخلُ فيها الأفعالُ والمشاعر، وقد يجدُ في هذا الملاذ مقرَّه الوجودي الذي يستنبطُ منه كينونتَه، وراحتَه.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب