
الأرامل بين الأمس واليوم

إبراهيم عبد المجيد
جذبني هذا الكتاب بعنوانه المثير، وكاتبته مينيكه شيبر الروائية الهولندية، التي سبق وأصدرت لها دار صفصافة أعمالا مترجمة رائعة مثل «ومن بعدنا الطوفان.. حكاية نهاية البشرية» و» تلال الفردوس .. تاريخ الجسد الأنثوي بين السلطة والعجز»، كما أن المترجم عبد الرحيم يوسف ابن الإسكندرية، الشاعر الذي أصدر ثمانية دواوين بالعامية، وترجم أربعة وثلاثين كتابا، اختياراته دائما في الترجمة رائعة، وحاز جائزة الدولة التشجيعية عن ترجمته لكتاب « ثلاث دراسات حول الأخلاق والفضيلة» لبرنارد ماندفيل. الكتاب عنوانه «الأرامل.. التاريخ المسكوت عنه» صادر هذا العام 2025 عن دار صفصافة أيضا في أكثر من مئتي صفحة.
تبدأ الكاتبة الحديث بالتفريق بين الأرمل والأرملة، فأرامل النساء دائما أكثر، وأصغر سنا، بسبب الحروب التي يموت فيها الرجال، ووفقا لتقدير عام 2021 توجد 285.5 مليون أرملة في العالم، واحدة من كل عشر منهن تعيش في فقر مدقع. صوتهن هو الأكثر في الغياب رغم انتشار جماعات حقوق الإنسان، بينما فكرة سعادة الرجل بفقدان زوجته في أجزاء مختلفة من العالم شائعة. تقدم عليها من كتالونيا مثلا يقول «الزوجة الميتة أفضل متاع في المنزل»، أو مثلا إسبانيا يقول «الأوزة الميتة تجلب الحياة. الزوجة الميتة تجلب الجنة»، أو مثلا برازيليا يقول «مبارك هو الباب الذي تغادر عبره الزوجة الميتة». التصورات عن النساء كأشياء قابلة للتبديل، لا تزال واسعة الانتشار، كما ظهرت رسوم كاريكاتيرية ساخرة من الأرملة. تنتقل إلى فكرة أن المرأة لا يعود بإمكانها الحياة بعد زوجها.. كيف؟ هي فكرة عميقة الجذور، فهي وإن لم تمت بعده، تجلس في حجرة في انتظار الموت. ورغم أن هناك أرامل عشن حياة مستقلة بطريقة رائعة، إلا أن هذه الصورة ليست محفورة في الوعي العام كالصورة السابقة. الأرمل لديه فرصة ثانية في الثقافات المختلفة، بينما الأرملة لا، وفي الأغلب تموت، أو تقتل لتدفن مع زوجها في كثير من البلدان، فالمجتمعات الأبوية هي السارية، والمجتمعات الأمومية كانت مرحلة ومرّت في التاريخ القديم. المرأة تحت سيطرة الزوج وأهله في حياتها وبعد موته، وفي بعض المجتمعات تتحمل مسؤولية موت زوجها، فيتم اتهامها بالسحر كما سنرى.
هكذا تأخذنا الكاتبة إلى جولة ثقافية وأنثروبولوجية في التاريخ والمجتمعات، تبدأ بفكرة أن الموتى لا يرحلون، وتجلياتها في الفنون والأشعار والحكايات، وكيف تظل روح الشخص الميت تطوف حول الأرض، بل يحتفظ بعض الذكور الموتى بقدر كبير من السلطة على الأحياء لوقت طويل، خاصة على زوجاتهم الأرامل.
في العالم الغربي قواعد صحية للتعامل مع الجثث، وإن ظل الخوف من روح الميت يلعب دورا مهما، بينما في ثقافات أخرى يلازم فيها الميت الأحياء لوقت طويل، وكل شيء كان على صلة بالميت «نجس»، بدءاً من الكفن حتى زوجته، ومن ثم يكون على الأرملة أن تقضي وقتا طويلا في عزلة، ويُحظَر عليها الحديث، وترتدي ثوب الحداب دائما، أو تحلق شعر رأسها، أو تُجبَر على ارتداء ثياب قديمة مهلهلة. تقدم الكاتبة مينيكه شيبر أمثلة كما تفعل دائما، من بلاد مختلفة في افريقيا وآسيا وغيرها، مدعومة بالصور مرسومة أو مصورة، وأحيانا تماثيل. تمشي مع طقوس حفلات الوداع وما يتبعها في بعض البلاد، من اعتبار المرأة الأرملة متاعا لأقارب زوجها، وكيف يعاملونها معاملة قاسية. كيف لم يكن مسموحا للأرامل مثلا في أوروبا حضور حفلات الزفاف، لأنهن سيجلبن الحظ السيئ، ولا إقامة أعياد ميلاد لهن. تمشي مع مراسم الحداد ونحيب الأرملة وغيرها من أزواج المتوفى، وانتظار عودته يطرق الباب في أي لحظة، فتحافظ على طقوسه وثيابه، وبينهم الملكة فيكتوريا، وكيف كانت أشهر أرملة في زمنها، فعاشت وحيدة تفعل ذلك.
لخسارة الرجل أسباب منها أنه هو الذي روى رحمها، أشعار في ذلك وأساطير قديمة، مثل أسطورة نانا ودوموزي السومرية. في الحداد سؤال الأرملة لماذا هجرتني، هل ارتكبت خطا ضدك؟ ونحيب مدوٍ إلزامي في كثير من المجتمعات. من هنا جاءت المراثي، لكن كل ذلك شيء، وضرورة موت الأرملة مع زوجها شيء آخر. تفاصيل الحداد وزي المرأة فيه، بعد موت الزوج وفتراته تغيرت، وكيف كان الأسود هو الشائع حتى غطاء الرأس، من مراسم الحداد في بعض المجتمعات عدم الاستحمام لوقت طويل، وعدم ارتداء أدوات الزينة مثل المجوهرات، وإن كانت في مجتمعات أخرى تزين أقراط ضخمة وثقيلة جدا غطاء الرأس، وتنزل على الكتفين، كاختبار لقدرة الأرملة على التحمل في الحداد.
يأتي الحديث الصعب عن ضرورة مصاحبة الميت، بمثل لشعب المينيانكا في مالي «بمجرد ان تُدَث الشجرة.. لا تساوي الشجيرة المجاورة لها شيئا»، والشجيرة طبعا هي الزوجة أو الزوجات. هكذا يجب موت زوجة كل ميت، أو زوجات كل حاكم، وأفضلهن عنده يقتلونها أولا في بلاد كثيرة، بل تتنافس النساء على من تموت أولا، وينضم الضحايا إلى حبيبهم المتوفى مهما زاد عددهن، إذا كان حاكما أو إقطاعيا، وأمثلة أكثر من العالم. تاريخ ذلك في أوروبا وكيف في شعب الإيروليين، وهو من الشعوب الجرمانية، يكون على الزوجة لإثبات الفضيلة، أن تلحق بزوجها بعد فترة ليست طويلة تقضيها جوار قبره، بشنق نفسها بحبل، وإلا ساءت سمعتها وصارت عارا على أقارب زوجها. الأمر نفسه في بعض شعوب السلاف. تقدم الأدلة على ما تقول من الصور دائما، وكتب الأنثروبولوجيين والرحالة، ومنهم ابن فضلان العربي في رحلته إلى أوروبا.
تنتقل الكاتبة إلى الهندوس وطقوس الموت الهندية، وكيف تحرق الزوجة نفسها بعده، وكيف تغيرت العادات بالقوانين حديثا، بتفاصيل مذهلة. يأخذ السحر مساحة كبيرة من الحديث، فالأرملة متهمة بالسحر، الذي تسبب في وفاة زوجها، وكيف تواجه افتاءات كثيرة. في أوروبا مثلا يقولون «تبكي الأرملة الثرية بعين وتغمز بأخرى». المهم تصبح الأرملة في بعض الثقافات والشعوب ساحرة، وسحرها هو سبب موت الزوج. الاتهام قديم ومن ثم يأتي الحديث عن الساحرات في التاريخ. الاختبارات التي كانت تُجرَى لهن لتبرئتهن، ومنها إنزالهن في الماء، فمن تنجو هي الساحرة، ومن تغرق هي البريئة، أو تمشي النساء المتهمات بالسحر على الفحم الساخن، فتكون البريئة هي من تصيبها قروح في قدميها، ومن لم يصبن بالقروح هن الساحرات. كيف كانت الساحرات في العصور القديمة بالآلاف المؤلفة موضع اتهام، خاصة في أزمنة الأوبئة.. كيف تم إعدام أربعين أو خمسين ألفا أتهمن بالسحر، في بداية أوروبا المسيحية وأمريكا الشمالية. كان أغلب الضحايا من الساحرات نساء غير متزوجات أو أرامل، وما زال لصق السحر بالأرامل شائعا في كثير من البلاد حتى الآن. في الكونغو مقولة، إن تأكل مع امرأة، يعني أن تأكل مع ساحرة. في الهند ونيبال قد تتهم بالسحر في حياة سابقة لها أيضا، ويتبع ذلك فقد الأرامل لبيوتهن وأطفالهن. وتمشي بك الكاتبة في قضايا كثيرة مثل الجنس، الذي يصبح في بعض المجتمعات حق إخوة المتوفي غصبا ودون زواج، كشكل من أشكال التطهر، الذي له أشكال أخرى أيضا يقوم بها في بعض القبائل «متطهر محترف»، كيف يكون الزواج الجديد غصبا، أو بالرضا من أخ الزوج الميت. يتم هذا بين العائلات الكبرى لتوسيع النفود، بينما هو عند من هم أقل أمر مفروض، فالأرملة من ممتلكات زوجها وعائلته. وهكذا تمشي مع الكاتبة في معنى الملكية والمصادرة، ولمن ينتمي الأطفال، ولمن الميراث، بعد أن تكون مشيت مع مساحة الحرية المتاحة للأرملة وغيرها، حتى ينتهي الكتاب، فتكون قطعت رحلة أدبية وفنية أيضا، بما فيه من حِكَم وأمثال وأشعار وحتى تماثيل، وعلى الناحية الأخرى رحلة علمية في موضوع الأرملة والترمل في العالم وعبرالتاريخ حتى اليوم، تستعين فيها الكاتبة بدراسات في علوم الاجتماع وغيرها، فتحقق لك المتعة في السرد والأسى أيضا، كما تقدم لك العلم.
كاتب مصري