ثقافة وفنون

«لا أرض أخرى»: شهادة سينمائية توثق جرائم الاحتلال وترفض التهجير

«لا أرض أخرى»: شهادة سينمائية توثق جرائم الاحتلال وترفض التهجير

فايزة هنداوي

القاهرة ـ :في ظل واقع مرير يعيشه الفلسطينيون، يطل علينا فيلم «لا أرض أخرى» كصرخة فنية مدوية توثق المعاناة المستمرة، ويعبرعن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون الذين انتزعت أرضهم وهويتهم، وفرضت عليهم حياة المنفى والتشرد، لكنه في الوقت ذاته يعكس حقيقة راسخة في الوجدان الفلسطيني: لا بديل عن هذه الأرض، ولا يمكن أن تكون هناك «أرض أخرى» للوطن السليب.

عنوان يختصر القضية الفلسطينية

في عالم السينما، لا يكون العنوان مجرد اسم لفيلم، بل هو المفتاح الأول لفهم رسالته، والمرآة التي تعكس جوهر العمل الفني. وعندما يحمل فيلم عنوانًا مثل «لا أرض أخرى»، فإنه لا يكتفي بالإشارة إلى موضوعه، بل يصبح تصريحًا سياسيًا وموقفًا وجوديًا يختصر معاناة شعب بأكمله.
فمنذ نكبة 1948، يحاول الاحتلال الإسرائيلي فرض فكرة أن الفلسطينيين يمكنهم البحث عن أوطان بديلة، سواء عبر التهجير القسري أو سياسات الحصار والتضييق، وكأن فلسطين ليست وطنهم الأصلي، مع ترويج مقولة استعمارية زائفة بأن فلسطين كانت «أرضًا بلا شعب»، لتبرير اغتصابها. ولكن عنوان الفيلم يفنّد هذه الأكذوبة بشكل مباشر، فهذه الأرض لم تكن يومًا فارغة، بل هي وطن لشعب متجذر فيها منذ قرون، والفلسطينيون لا يملكون أرضًا أخرى، ولا يمكن لأي قوة في العالم أن تقتلعهم من جذورهم.
يؤكد العنوان والفيلم على مركزية الأرض في النضال الفلسطيني، فالأرض هي امتداد للهوية والتاريخ والثقافة. وهي جزء من كيان الفلسطينيين، وارتباطهم بها ليس اختيارًا، بل هوية متجذرة لا يمكن اقتلاعها.

من مسافر يطا إلى غزة

تدور أحداث فيلم «لا أرض أخرى» حول التهجير القسري الذي يتعرض له أهالي قرية مسافر يطا الواقعة في الضفة الغربية، حيث يكشف الفيلم عن محاولات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة لتهجيرهم من أراضيهم بالقوة، بدعوى إخلاء الأراضي لصالح المشاريع الاستيطانية أو ما يسميها الاحتلال بـ «المناطق العسكرية». التهجير القسري والتدمير الشامل لبيوت الفلسطينيين في هذه القرية جزء من سياسة إسرائيلية ممنهجة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
لكن الفيلم، الذي يوثّق هذا الواقع المأساوي، يكتسب دلالة كبيرة في الوقت الحالي نظرًا لما يحدث في غزة. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، يتعرض سكان غزة لمذبحة جماعية ولعمليات تهجير قسري شبيهة بتلك التي رُويت في فيلم «لا أرض أخرى». في غزة، يعيش الشعب الفلسطيني ذات المعاناة من محاولات الاحتلال اقتلاعهم من أرضهم عنوة، حيث يُستخدم التهجير كأداة لتغيير الواقع الديموغرافي في المنطقة. مئات الآلاف من المدنيين تم تهجيرهم من منازلهم، وتعرضوا لمجزرة إبادة جماعية على يد الاحتلال الإسرائيلي، وتهجير قسري تمامًا كما يحدث في مسافر يطا، والتي يُقدّمها الفيلم مثالًا حيًا لهذه الممارسات الممنهجة.

عندما تصبح الصورة أصدق من الكلمات

اعتمد الفيلم على لغة بصرية قاسية ومباشرة، لا تترك مجالًا للشك في طبيعة الجريمة المرتكبة. التصوير بالكاميرا المحمولة جعل المشاهد يعيش الحدث بواقعية، وكأن عدسة الكاميرا تتحول إلى عين الفلسطيني الذي يرى منزله يُهدم، وأرضه تُنهب، وأشجاره تُقتلع أمامه. المشاهد الوثائقية الخالية من أي موسيقى درامية زائدة سوى في لحظات قليلة جعلت الألم أكثر صدقًا، فالدمار لا يحتاج إلى مؤثرات صوتية كي يكون محسوسًا.
كل لقطة في الفيلم تنطق بالحقيقة، من وجوه الفلسطينيين الذين يُطردون من بيوتهم، إلى جرافات الاحتلال وهي تزيل البيوت كأنها لم تكن. لا توجد في الفيلم أي محاولة لتلطيف الصورة أو تقديم أي تبريرات، وهو ما يجعله شهادة سينمائية نادرة في وقت تُشوه فيه الحقائق، ويُحاول الإعلام الغربي فرض سردية زائفة عن «صراع متكافئ» بين طرفين.
تُظهر لقطات مؤلمة لجرافات الجيش الإسرائيلي وهي تدمّر منازل العائلات الفلسطينية، بينما يُسمع بكاء الأطفال وصراخ النساء. تعكس هذه المشاهد الألم والمعاناة الناتجة عن فقدان المأوى، خاصة مع ظهور سكان يحاولون إنقاذ ما تبقى من أغراضهم وسط الركام.
لكن الفيلم لم يسع فقط إلى توثيق لما يحدث على الأرض، بل هو أيضًا احتجاج على هذه الممارسات. فهو يُعبّر عن تواطؤ المجتمع الدولي في تجاهل هذه الانتهاكات بحق الفلسطينيين، كما يسلّط الضوء على قسوة النظام الاستعماري الإسرائيلي المستمر منذ عقود. يتقاطع الفيلم هنا مع لغة الاحتجاج الفني، حيث يُقدّم صورة عن الواقع بطريقة تدعو المشاهد للتفكير في مسؤولياته تجاه هذه الوحشية.

جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي طويل

جاء تتويج الفيلم بجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي طويل، في ظل الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، ليحمل بُعدًا آخر، حيث صار صرخة في وجه الحاضر الذي يعيد إنتاج المأساة بأبشع صورها. هذا التوقيت جعل الجائزة ذات دلالة سياسية وإنسانية، في انتصار لسردية فلسطينية موثقة بالصورة والصوت، تكشف وحشية الاحتلال بعيدًا عن محاولات تزييف الحقائق أو تقديم «رؤية متوازنة» تمنح المحتل شرعية زائفة.
فالفيلم، الذي يروي قصة صمود أهل مسافر يطا ضد محاولات الاحتلال، يصبح جزءًا من الرسالة العالمية التي ترفض التهجير القسري كأداة سياسية لاقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم. وفي حين لا تزال أعداد الضحايا في غزة في تزايد مستمر، يُؤكد الفيلم أن التهجير ليس محصورًا في مكان واحد بل هو سمة مستمرة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي.
إذا كان أهالي غزة يعانون اليوم من القصف والدمار الشامل، فإن أهالي مسافر يطا كانوا قد عانوا أيضًا من تهجير قسري، حيث تسعى إسرائيل لانتزاع الأرض من الفلسطينيين، تمامًا كما يحدث في غزة الآن.
حصول الفيلم على الأوسكار يعكس تغيرا ولو نسبيا، في نظرة المؤسسات السينمائية الغربية للقضية الفلسطينية، إذ لم يكن من المعتاد أن تحظى أفلام توثق معاناة الفلسطينيين بتقدير على هذا المستوى، لذلك وصف وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهار فوز الفيلم بأنه «لحظة حزينة للسينما»، وهو ما يكشف عن مدى إزعاج الفيلم للخطاب الرسمي الإسرائيلي.

بين توثيق الجريمة وإشكالية التطبيع

رغم أهمية الفيلم، لا يمكن تجاهل أن مشاركة مخرج إسرائيلي في العمل تطرح إشكالية التطبيع، التي نرفضها بشدة، كونها تخلط بين الجلاد والضحية وتمنح الاحتلال مساحة لا يستحقها.
لكن هذا الفيلم تحديدًا يظل حالة خاصة، فهو لم يسعَ لتجميل الاحتلال أو التخفيف من جرائمه، بل جاء صادقًا في توثيق المأساة، وتوقيته بالغ الأهمية، حيث يعرض وقائع تهجير الفلسطينيين في الضفة الغربية في الوقت الذي تتزايد فيه الدعوات الدولية لتهجير سكان غزة، وكأن التاريخ يعيد نفسه. هذا ما يجعل الفيلم شاهدًا على واحدة من أبشع الجرائم المستمرة في العصر الحديث.
الاختلاف الأساسي بين هذا الفيلم وأي عمل يروج لفكرة «التعايش المشترك» يكمن في أنه لا يساوي بين الطرفين، بل يوضح بجلاء أن العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي هي علاقة احتلال واستعمار. وحتى مشاركة الصحافي الإسرائيلي يوفال أبراهام لم تغير من هذه الحقيقة، فقد ظهر بوضوح أنه ينتمي إلى الطرف الذي يملك الامتيازات، بينما الفلسطيني هو الضحية الدائمة التي تُسلب أرضها وحياتها. وكما قال المخرج الفلسطيني باسل عدرا عند استلام الجائزة: «عندما أنظر إلى يوفال، أرى أخًا، لكننا لسنا متساويين في الحقوق».
هذه الجملة تلخص أزمة أي تعاون بين فلسطيني وإسرائيلي في السينما: لا يمكن أن يكون هناك تكافؤ بين مستعمِر ومستعمَر، بين قوة احتلال تفرض سيطرتها بالسلاح، وشعب أعزل يُقتل ويُهجر. ومع ذلك فإن أي محاولة لتقديم السردية الفلسطينية عبر إطار «مشترك» تظل موضع ريبة، لأن الاحتلال لا يمكن منحه شرعية حتى في سياق فني، ذلك أن السينما ليست فنا فقط، بل أداة سياسية أيضًا. وعلى مدار العقود الماضية، استُخدمت أفلام كثيرة لتلميع صورة الاحتلال أو خلق انطباع زائف عن إمكانية «التعايش» في ظل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. ولهذا، فإن القاعدة تظل واضحة: رفض أي عمل فني يمنح الاحتلال شرعية، والتعامل بحذر حتى مع الأعمال التي تكشف جرائمه، لضمان عدم استخدامها في سياقات سياسية مضللة.

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب