ثقافة وفنون

رواية الخرز الملوّن.. هل يعيد الأدب كتابة القضية؟

رواية الخرز الملوّن.. هل يعيد الأدب كتابة القضية؟

منير الحايك

عندما يعيد كاتبٌ نشر رواية له صدرت منذ ما يزيد عن خمسة وعشرين عاما، وفي زمن تزاحم الإصدارات الروائية في العالم العربي، وخصوصا المصرية منها، يسأل المتلقي نفسه سؤالا حول جدوى إعادة طباعة النص القديم، فهو كان قد أخذ فرصته في حينها، والسؤال الآخر يكون لماذا تتبنى دار نشر جديدة هذه الخطوة، فما الجدوى من إعادة نشر رواية «الخرز الملوّن – خمسة أيام في حياة نسرين حوري» (الطبعة الأولى 1990 وطبعة دار دوّن عام 2024)؟
قد يرجع الأمر إلى أسباب بسيطة منها، أنّ الكاتب، أو الدار، ولكن الدار مختلفة عن التي نشرت النص أول مرة، أراد أن يعيد إلى الأذهان، أو إلى رفوف المكتبات نصّا يحبه، أو نصّا من أفضل نصوصه، فيعيد طباعته، بعدما نفد من الأسواق، ولكن متى يكون الأمر حاجة وضرورة، على الرغم من أنّ القارئ منّا قد يتفاءل أحيانا عندما يحبّ نصّا، فيعتبره حاجة في وقت الشحّ في جميع نواحي الثقافة والأدب والفنّ وتأثيرها في العالم العربي، ولكن ما الضرر من بعض التفاؤل!
رواية «الخرز الملوّن» تحكي بالفعل خمسة أيام مفصلية من حياة نسرين حوري، الفتاة الفلسطينية ابنة رئيسة بلدية يافا، التي طُردت كما الآلاف من الفلسطينيين عام 1948 من بلادها، واستقرت بها الأحوال في مصر، نسرين التي تقرر في يومها الأول أن تبقى في يافا لتشارك في المقاومة، ويظهر أثناء السرد عبد القادر الحسيني، والشاب ياسر عرفات ومن معهم من القادة العرب، نسرين التي تعيش قصة حب وتتزوج ممن أحبّت، ولكننا نبدأ بالتعرف بصدمات حياتها منذ «اليوم الأول»، حيث تفقد بلادها، وتصبح لاجئة، وتفقد حبيبها، الذي يبيعها ويطلقها، ذلك الحبيب الذي كان قد باع البلاد والقضية قبلها.

تتنقل الرواية بين أيام أربعة أخرى بعد خروج نسرين ووالدتها من يافا، ووالدها الذي يصل مشلولا إليها في مصر ويبقى يعاني حتى مماته، أما والدتها فهي التي تسمع الطلق الناري الذي يودي بحياتها على حاجز العصابات اليهودية. تعمل في الصحافة ويذيع صيتها، وتنجب ابنها من زوجها الأول الذي يعود ويخدعها ويسرقه من بين أحضانها وهو لم يكمل سن الرابعة، فتكون الصدمة التالية القاسية، من ثم تتوالى الصدمات، بين موت عبد الناصر ومن ثم موت زوجها وحبيبها الصحافي إسماعيل جابر في انفجار في بيروت، ثم تأتي زيارة السادات إلى إسرائيل، والتحول الذي يحصل في مصر معه، وخصوصا في جريدة «الأهرام» التي تركها محمد حسنين هيكل، ومن ثم إحسان عبد القدوس، والحريري الذي اغتيل، وهو الذي كان صدمتها الأخيرة معه، فقبل موته كان قد طلب منها التخلي عما بقي لها لتعيش من أجله، وهو مبادئها تجاه قضيتها الأولى، فلسطين… وتكون قد تجاوزت سنّ الخمسين بقليل..
الأيام الخمسة من حياة نسرين هي أيام خمسة أساسية من تاريخ فلسطين، ومصر، ولبنان ودمشق.. تاريخ الدول التي كان في طليعة المواجهين للدولة «الكيان» الإسرائيلية المحتلة، وقد شهدت نسرين تلك الإنجازات والإخفاقات، الانتصارات والخيبات والنكبات والنكسات، شهدت إعلان الدولة الإسرائيلية، وشهدت الثورة المصرية وتأميم القناة، وشهدت الوحدة بين مصر وسوريا، وهناك توّجت حال الفرح والفخر بزواجها من إسماعيل في غوطة دمشق، جنة عدن كما وصفتها الرواية، وأيام نسرين شهدت أيضا أول إعلان فك اشتباك، وزيارة السادات إلى «دولة إسرائيل» ومعاهدة السلام، وشهدت خيبة نسرين الأخيرة مع وفاة والدها، رئيس بلدية يافا الذي واجه حتى آخر نفس في بلاده، وخرج منها لا قدرة له على الحركة، وآخرها كان خيبتها بأن انتهت بها الحال في المصحة، فتقرر إنهاء القصة، بتقمص حياة «الورقة» التي تكتب عنها في مقالها الأخير الذي لم يُنشَر في «الأهرام»، ولكن يُنشر في الرواية.
هي خمسة أيام رئيسية من حياة بلادنا، وتاريخ الصراع والمواجهة وتاريخ القضية، التي نشهد اليوم أياما من أقسى أيامها، فنحن اليوم نعيش الأيام العشرين أو الثلاثين بعد أيام نسرين التي تنتهي عام 1980. فأيام نسرين لم تشهد احتلال بيروت، واندحار الجيش الإسرائيلي منها عام 1982، ولم تشهد حروب غزة والضفة، ولم تشهد الانتفاضات، ولم تشهد تحرير الجنوب عام 2000. أيام نسرين لم تشهد «الربيع العربي» وما تبعه، ولم تشهد من قبلها حرب الـ2006 في لبنان، وبالطبع، أيام نسرين لم تشهد حرب غزة المستمرة، وحرب لبنان التي ما زالت مستمرة أيضا.
نقلت لنا الرواية أياما خمسة مهمة بأسلوب سردي متماسك، وبلغةٍ مكثّفة أعطت لكل موقف حقه ولكل يوم حركته السردية وعلاقات مكونات النص بشكل جميل وعميق، فالشخصيات تنوعت ولكن بقيت نسرين محور النص، تفاءلت ويئست وقاتلت وفازت وانهزمت، كحال البلاد وحال القضية، قررت في نهاية الرواية، وهي في أوج حال اليأس أنها وأبناء جيلها قد قاموا بما عليهم، وحان وقت الأجيال الجديدة، وتمنّت أن يكون باسل، ابنها الذي لم تره مراهقا وشابّا، يقاوم، أو يرفع راية النصر إلى جانب القائد، باسل هو الرمز الأعمق لحال فلسطين، الأرض والناس.
طرحت الرواية قضايا عديدة، وجاءت برموز ما زال باستطاعتنا، اليوم، الإسقاط على ما أعتقد أنه كان مناسبا عندما صدرت الرواية أول مرة، فالتاريخ ما زال سائرا، كما توقّعت الرواية، مراوحا بين أخذ وردّ، بين انتصارات وانتكاسات، بين فرح ونشوة وانكسار وخيبة، ولكن الثابت الوحيد هو أنّ الأيام التي كانت خمسة في حياة نسرين، نسرين التي تمثّل من وجهة نظري فلسطين التي لجأت إلى مصر، ومثلها فلسطين التي لجأت إلى لبنان أو الشام أو لجأت إلى نفسها وأبنائها، تلك الأيام ما زالت مستمرة، وتلك الأيام ستستمر ما دامت الأرض تدور، وما دامت البلاد تنجب من يريد الدفاع عنها، وقد جاء رمز الخرز الملوّن الذي خدع فيه الرجل الأبيض أبناء افريقيا، ليكون تعبيرا صارخا بأن الخداع لم يعد ممكنا، حيث يذكر النص انتفاضة جنوب افريقيا، فقط لرمزيتها وليقول، إن الأمر ليس مستحيلا.
صدرت الرواية من جديد الآن، لتقول إنّ الأدب، أو فلنقل إن كلام المثقف، والآخذ على عاتقه الدفاع عن قضايا البلاد، ومحاسبة تاريخ البلاد بانتصاراته وخيباته، هو أمر ضروري وحاجة، من هنا أعود إلى فكرة الحاجة إلى إعادة النشر، فمحمد سلماوي طرح تساؤلات كبرى منذ 25 سنة، حول قرارات التأميم والوحدة وقرارات الحرب والسلام، أسئلة يسألها الكتّاب اليوم، سألها سلماوي، وما زالت حاضرة، لذا وجب الإفصاح عنها من جديد، للتأكيد على ضرورة المساءلة، وللتأكيد على أننا على الرغم من كل ما قد يبدو هزائم وانتكاسات في عمل المقاومة، والسبيل نحو التحرير والنصر، أو ما يبدو انتصارات لثورات توهم بالجديد الآتي، في مصر ولبنان والشام، وغيرها من بلادنا التي ستستمر في المقاومة، وستستمر في إعادة إنتاج خيباتها، أو فلنقل ستحاول عكس ذلك..

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب