
خيمةٌ من نار… ومجزرة موثقة على الهواء مباشرة

مريم مشتاوي
في رُكن من أركان العدم، حيث تحولت الخيام إلى مقابر مؤقتة، وفي بقعةٍ من بقاع الأرض التي ضاقت بأهلها حتى اختنقوا، وقعت المجزرة. ليس مشهداً من رواية ديستوبية، بل حقيقة تُعرض على الشاشات بلا خجل، وبلا نهاية. خيمةٌ نُصبت قرب مجمع ناصر الطبي في خان يونس، كانت موطناً للصحافة، للكلمة، للحقيقة التي تحاول البقاء في زمن يُباد فيه كل ما هو إنساني. لكن في غزة، حتى الكلمة تُحرق، حتى الحقيقة تُعدم.
هناك، حيث كانت الكاميرات تسجل آهات الجرحى وصيحات الفاقدين، سجّلت كذلك لحظة خروج الروح من جسد الصحافي أحمد منصور، وهو يحترق حيّاً. كاميرا عابرة التقطت آخر مشهد من حياته، لكن الذاكرة لم تكن بحاجة لصورة لتتذكر النار، ولا لرواية لتشعر بالرعب. كان يكفي أن ترى يده المرتجفة، وجسده المسجى باللهب، لتفهم أن الموت حين يأتي في غزة لا يهمس، بل يزأر.
أحمد لم يكن وحده في الخيمة. كان هناك حلمي البقعاوي، ويوسف الخزندار، وجميعهم جلسوا بين الكاميرات وأجهزة البث، يتبادلون الأنفاس الأخيرة من الهدوء الوهمي. ثم جاء الصاروخ. جاء كالموت الذي لا يعتذر، لا يستأذن، ولا يميز بين قلم وبندقية. احترقت الخيمة، واشتعلت معها أجساد الرجال الذين نذروا أعمارهم للحقيقة.
في لحظة واحدة انفجر الصمت
صرخة أحمد، أو ما تبقى منها، مزقت الهواء. كان يحترق، وكانت عدسة الكاميرا تشهد. لم تكن الكاميرا هذه المرة أداة للتوثيق، بل مرآة تعكس خذلان العالم. زميله، الذي رأى النار تلتهم جسده، اندفع نحوه دون أن يفكر، دون أن يزن الخطر. يقول إنه في تلك اللحظة، تخيّل نفسه هو الذي يحترق، هو الذي يُترك للموت في خيمة أعدّها للبث لا للدفن.
أصيب الصحافيون حسن أصليك، محمود عوض، عبد الله العطار، ومحمد فايق. كلهم كانوا هناك لأداء مهمة واحدة: أن يقولوا لنا ما يحدث. لكن الكلمة لا تُرضي الاحتلال، ولا تُرضي آلة القتل. جيش الاحتلال اعترف: نعم، قصفنا الخيمة. بلا خجل، بكل عنجهية وتكبر ووحشية جبروت.
أحمد منصور، مراسل وكالة «فلسطين اليوم»، التحق بزميله حلمي البقعاوي، والشاب يوسف الخزندار.
ثلاثة شهداء من رجال الصحافة، صاروا رقماً في لائحة طويلة تزداد يوماً بعد يوم. منذ بدء العدوان على غزة، ارتقى 211 شهيداً من الصحافيين. 211 قصة لم تكتمل. 211 قلماً انكسر. 211 عيناً كانت تنقل الحقيقة، ففقأتها النار.
ما الذنب؟ أن تحمل كاميرا؟ أن تكتب الحقيقة؟ أن تروي الألم؟ يبدو أن الكلمة تُعد تهديداً أكبر من الرصاصة. يبدو أن الصوت الحر أخطر من كل فصائل المقاومة. لأن الحقيقة إن عاشت، فلن يصمد الكذب طويلاً.
وهكذا، في خيمة من قماش هشّ، اجتمعت كل عناصر الرواية القاتلة: النار، والصرخة، والعجز.
يا أحمد، يا حلمي، يا يوسف.. يا من احترقتم تحت مرأى ومسمع من العالم، ما عادت كلمات الرثاء تكفي، ولا أفعال الإدانة تشفي. أنتم لم تموتوا وحدكم، بل ماتت معكم أشياء كثيرة: ماتت الحماية الدولية، ماتت القوانين التي تزعم حماية الصحفيين، وماتت الإنسانية مرة أخرى.
الخيمة لم تكن سوى رمز. رمز لخيمةٍ أكبر، اسمها غزة، تحترق منذ سنين. خيمة يسكنها مليونان من البشر، محاصَرون بين الموت واللا شيء. كل متر في القطاع صار يشبه تلك الخيمة: هش، ضعيف، مهدد بالاحتراق. كل طفل، كل أم، كل كاتب، كل عجوز، يشعر بأن صاروخاً في الجو يبحث عن اسمه.
النار تُلاحق شعباً بأكمله، نار لا تفرق بين مدني وعسكري، بين مسعف ومقاوم، بين صحافي وطفل. نار تكاد تتنفس. لها عينان، ولسان، وذاكرة. تعرف من أين تأتي، وإلى أين تصب. نار مدعومة من صمت العالم، ومن تواطؤ الأمم، ومن قلوب لا ترى في أهل غزة سوى أرقام وأخبار عاجلة.
لكن رغم ذلك، لم تمت الحكاية. لأن أحمد، وإن احترق جسده، بقيت صورته تصرخ. بقيت الكاميرا شاهدة،
بقيت الخيمة المحترقة دليلاً على جريمة لن تُنسى. بقيت الحقيقة، تتنفس من رماد.
إنهم يحرقون الرجال في وضح النهار، أمام الشاشات، والعالم ينظر ويحسب الضحايا بنغمة باردة. لكننا رأيناه. رأينا أحمد منصور يحترق. رأيناه يموت واقفاً، كما يفعل الكبار، كما يموت الصحفي حين يرفض أن يكون شاهداً أعمى.
منظمات عربية ودولية أدانت الاستهداف. إدانات محفوظة في أدراج مكاتب فاخرة، لا تملك ماءً تطفئ به النار، ولا عدلاً يعيد به الأحباب. لكن في غزة، لا أحد ينتظر الإدانات. ينتظرون فقط أن يُقال لهم إنهم ليسوا وحدهم. أن تُقال الحكاية. أن تُروى الجريمة، بلا تجميل، بلا تحريف، بلا توازن زائف.
وهكذا، كتبت الخيمة المحترقة فصلها في كتاب الإبادة.
إبادة لا تعرف اسم هدنة، ولا تؤمن بشيء اسمه «حقوق الإنسان».. إبادة تُمارس يومياً، على العلن، بلا خجل. إبادة شعب بأكمله، اسمه الفلسطيني، يسكن أرضاً اسمها غزة، تشبه المقبرة وتتنفس كما تتنفس النار.
وفي قلب النار، رجال كالنجوم. لم يخافوا، لم يتراجعوا، لم يسكتوا. ذهب أحمد منصور، لكنه خلّف وراءه سؤالاً: من يحمي الكلمة؟ من يحمي الحقيقة؟ من يحمي الخيمة من صاروخ آت؟
لم يكن أحمد أول من رحل، وربما لن يكون الأخير، لكن النار التي التهمته، لن تأكل ذاكرته. سيظل حيّاً في لقطته الأخيرة، في صراخ زميله، في كل من شاهد الفيديو وبكى، في كل من كتب وصرخ ورفض.
أحمد منصور، وحلمي البقعاوي، ويوسف الخزندار، ما ماتوا وحدهم، ماتت معهم الإنسانية في خيمة.
ومع ذلك، ما زال الحرف يقاوم، والكاميرا تُشهر في وجه الطغاة. ما زال في غزة أناس يقولون لا. ما زال في غزة صوت لم يُقصف بعد. ما زال في غزة من يكتب، رغم النار، رغم الموت، رغم كل شيء.
وغداً، حين يعلو الدخان، ويهدأ الرماد، ستُكتب القصة مرة أخرى، وسيُقال: كان هنا صحفي اسمه أحمد، لم يكن يحمل بندقية، بل كاميرا، لكنه قُتل كما يُقتل الجنود. لأنه في فلسطين، الكلمة جريمة، والصمت خيانة.
٭ كاتبة لبنانية