
عودة الجندي الطيب إلى خوض الحرب العالمية

حسن داوود
متأخّرا جدّا أتيحت لي قراءة «الجندي الطيّب شفيك» لياروسلاف هاشيك. لا أذكر متى ترجم الكتاب إلى العربية، لكن بالنظر إلى اشتهاره في السبعينيات، وترداد ذكره في أوساط الطلاب الجامعيين، والحزبيين منهم على وجه الخصوص، أُرجع إصداره إلى ذلك التاريخ. كان الكل يتحدّث عن الجندي شفيك، وأنا الذي لم أقع على نسخة من الكتاب، وجدتني أكوّن في ذهني صورة لذلك الجندي متألّفة من سماعي لما كان يتردّد عن الكتاب في كلام الآخرين.
ولم يكن ما تصوّرته بعيدا عن شخصيّته التي أتيحت لي معرفتها بالتفصيل بعد أن وقعت عيناي على ترجمة جديدة للكتاب، قام بها رامي طويل لدار الساقي. وفي ما كنت أقرأ راح شفيك يزوّدني بالتفاصيل التي لم أكن أعرفها. وهذه كثيرة إلى حدّ أن ذلك الجندي، أو كاتب حكايته ياروسلاف هاشيك، لم يتوقّفا عن ابتداعها. وإن توقّف شفيك حينا عن نسج القصص، سيكون علينا أن نقرأ ما يقوله مَن هم حوله ليملأوا ذلك الفراغ.
كل شيء يستدعي الإفاضة في الكلام، كل حادثة، صغيرة أو كبيرة، تستدعي تعليقا ثم تعليقا على التعليق، وذكرا لحوادث من قبيلها حدثت في مكان آخر. يقول شفيك معقّبا على كل ما يرويه، ليس حبّا بالوشاية، بل للعجب من تكرار الحوادث وتشابهها. على الرغم من أن الكتاب، ونحن بعد في صفحته الأولى، يبدأ بواقعة مصرع الدوق فرديناند ولي عهد النمسا، وأين؟ في البوسنة، حيث إن الحرب، بسبب ذلك، ستندلع على الفور. وهي ليست كأي حرب، بل هي حرب عالمية لم تعرف البشرية من قبل ما يدانيها فظاعة. وقد بدأ شفيك الاستعداد لخوضها، هو المواطن الصالح والجندي الشجاع، بأن أرسل مدبّرة منزله السيدة مولر لشراء قبّعة، ثم إلى متجر المعجّنات لاستعارة الكرسي المتحرّك الذي كان يستعين به صاحب المتجر لأخذ جدّه العاجز للتنزّه. وإذ خطر لشفيك أن يصطحب معه العكازين اللذين كان يحتاجهما ذاك الجدّ لتنقّله، أوصى السيدة مولر بأن تحضرهما أيضا. بهذا التجهيز الذي كثيرا ما يُذكّر بما زوّد دون كيخوته نفسه به حين قرّر الذود عن مظلومي العالم.
خرج شفيك إلى الحرب العالمية تجرّه، وهو جالس على الكرسي المتحرّك، ورافعا العكازين إلى الأعلى فيما هو يصرح داعيا الناس للحاق به «إلى براغ… إلى براغ» للدفاع عنها. ذلك المشهد يمثّل ذروة البطولية الطائشة والبلهاء، حيث عند قراءته، نشعر وكأنه إزاء الاستهزاء الأمثل بكل المشاهد البطولية، السابق منها واللاحق. الذين عبر بينهم شفيك على جانبي الطريق راحوا يصفّقون للمشهد الحماسي، ذاك الذي حفّز كثيرين منهم إلى أن يحذوا حذو بطله، أما الدولة، جيش الدولة الذي كان هو أيضا يستعد للحرب، على طريقته، فقبض على شفيك لشروعه بالسخرية من الحرب والتحريض على المشاركة فيها.
أكثر فصول الكتاب تدور على فساد الإمبراطورية النمساوية – التشيكوسلوفاكية، وفي الطليعة من ذلك جيشها الذي لا يتوقف الكاتب عن هجائه والسخرية منه. مؤسسة الجيش فاسدة بكاملها، بدءا بالضباط والقضاة العسكريين ومديري السجون والكهنة المعيّنين من الإدارة العسكرية. شفيك أتيح له التنقّل بين كل تلك الأمكنة، من السجن إلى المستشفى، إلى المراكز التي يُحمل إليها المختلّون، ثم إلى الكنيسة الملحقة بالقوات المقاتلة، مرافقا للقديس العسكري أوتّو كاتز، قضى شفيك أكثر فترة جنديته المزعومة، حيث أمكن له، بل لنا نحن القرّاء، أن نتعرّف على ذلك الجمع بين الوظيفة اللاهوتية والفساد الأخلاقي بأشكاله وأنواعه كافة. لا يصدّق القسّ الذي عمل شفيك مرافقا له لكن، في الوقت نفسه، ظل، هو شفيك، مؤنبا له عن كل ما يصدر من أفعاله: من سكره إلى حد تخريب الحانة، ولعب القمار إلى حد خسرانه كل ما تملكه كنيسته وبيعه، إثر ذلك، لأثاثها المقدّس، وكذلك استدانته من الناس الذين سيعمدون إلى مطاردته. القسّ كاتز ليس هو القس الفاسد الوحيد في زمن الحرب العالمية تلك، بل إنه واحد من كثيرين في الكتاب بينهم كاهن دير عاموس الذي كان يعمل مساعد بستاني وأراد أن يبلغ درجة الراهب ليحصل على عباءة تحفظ ملابسه المدنية من الاهتراء.
الجندي شفيك بطيبته وحسن طويته، وبسذاجته التي بلا حدود يكشف عن الانحراف التام لمجتمعه عن كل ما هو مبادئ قانونية واجتماعية، إنه الشخص الذي نشأ مصدّقا كل ما تذيعة الدولة عن مناقبيتها وحكمتها، وهو يسلك تبعا لما نشأ عليه. وهو، بنظرته الهادئة وابتسامته المسالمة المفصحة عن حسن طويته، يجعل الآخرين غير مصدقين لكل ما يقوله أو يفعله. هو يخرج عن القاعدة السارية في تعاملاتهم حين يتصرّف صادقا مع ما زُوّد به في صغره، وصولا إلى بلوغه الأربعين حين اندلعت حرب العالم ضده.
*كتاب «الجندي الطيب شفيك» لياروسلاف هاشيك أعاد رامي طويل ترجمته لدار الساقي في 303 صفحات- سنة 2024.
كاتب لبناني