
مقبول العلوي يرصد الفرد في تعالقاته المختلفة

سلمان زين الدين
«تدريبات شاقة على الاستغناء» هي المجموعة القصصية الجديدة للروائي والقاص السعودي مقبول العلوي، التي صدرت مؤخراً عن دار نوفل في بيروت. وهي الرابعة في تسلسل مجموعاته القصصية، بعد «فتيات العالم السفلي»، و»القبطي»، و»رجل سيئ السمعة. وهي الثانية عشرة في تسلسل أعماله السردية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار رواياته الثماني، الصادرة خلال العقد الثاني من القرن الجاري. وفي هذه المجموعة التي تشتمل على أربع عشرة قصة قصيرة، نقع على تنوّع واضح في الشكل والمضمون.
في الشكل، تجاور المجموعة بين القصة المشتملة على قصة أخرى في «تقرير سري عن زينة»، والقصة المَقامة في «زعيرات الشماعين»، والقصة المؤلفة من سنويتين اثنتين في «ديستوبيا القرى المعزولة»، والقصة المشكلة من مجموعة «ساعيات»، قياساً على يوميات، في «يوم عصيب في حياة الآنسة زينة»، وقصة اليوميات في «الأيام الخمسة الأولى للعزلة»، والقصة المتضمنة رسالة في «طعم الموتى»، والقصة العادية في القصص الأخرى. وبذلك، نكون إزاء مروحة من الأشكال القصصية المختلفة، التي تندرج في إطار محاولات التجريب التي يقوم بها القاص.
تعالقات مختلفة
في المضمون، يرصد العلوي الفرد بتعالقاته المختلفة، في المجتمع السعودي. فنتعرف إليه في اصطدامه بقيم الجماعة، وما ينجم عنه من ترددات مختلفة، وفي تفاعله مع المكان من موقع المتأثر به غالباً، وفي انفعاله بالمرئيات الخارجية وكيفية انعكاسها على داخله، وفي علاقته بذاته في الظروف المتغيرة. والمفارق في هذه التعالقات أن الفرد غالباً ما يكون هو الطرف الأضعف فيها الذي يتحمل التبعات ويدفع الأثمان. وهو ما تتوخى هذه القراءة إماطة اللثام عنه.
تمظهرات متعددة
تتعدد تمظهرات خروج الفرد على مواضعات الجماعة في المجموعة، سواء بفعل عطب بنيوي يعتوره، أو بسبب ميزة يتحلى بها، وفي الحالتين هو الذي يدفع ثمن الخروج المتعدد التمظهرات؛ ففي قصة «تقرير سري عن زينة»، يتمظهر الخروج في انتهاك خصوصية الآخرين والتجسس عليهم؛ ذلك أن زير النساء يوسف مغناطيس يستغل وسامة وجهه وذرابة لسانه وعذوبة حديثة للإيقاع بالنساء، ما جعله يشك فيهن جميعاً، فيقرّر عدم الزواج، ويلجأ، في نوع من الانتقام أو التعويض أو الهوس، إلى تكوين أرشيف لهن، بحيث ينظم لكل منهن ملفها الخاص بطرق غير مشروعة، ويبيعه لمن يطلب بالسعر المناسب، حتى إذا ما اكتشف زميله القديم، راوي القصة، ذلك، ولمس تعاليه وتهكمه وفوقيته، يقوم بالإيقاع به مستخدماً الأسلحة نفسها، فيتم التحقيق معه من قبل الجماعة، ويقتحم بعضهن منزله وينزلن به ضربا، ويُصادرن ملفاته التي يتولى الراوي إحراقها، ويختفي زير النساء وأمه عن الأنظار.
وفي قصة «زعيرات الشماعين»، التي يصوغها القاص بأسلوب المقالة، وتعود أحداثها إلى مرحلة تاريخية قديمة كانت التجارة فيها بين الحجاز ومصر تقوم على القوافل، يتمظهر الخروج في الاحتكام إلى الغريزة بدل العقل، فيقوم التاجر الحجازي بجولة في سوق الشماعين في القاهرة، ويرى فتاة مليحة ممن يتعاطين البغاء، وتقع في قلبه موقعاً حسناً، فيقرر اصطحابها إلى «خان القناديل» الذي ينزل فيه، ضارباً عرض الحائط بتحذير صاحب الخان منها، ومنساقاً وراء غريزته الجنسية، حتى إذا ما خلت به، تقوم بإسكاره والاستيلاء على ماله لينهض في اليوم التالي على أسوأ حال. وبذلك، يدفع ثمن جهله بالمكان وأهله، وهو الغريب، من جهة، وثمن الانقياد وراء غريزته، من جهة ثانية.
وفي قصة «المؤتمر الأدبي»، يتمظهر الخروج في انتحال الصفة واستخدام وسائل غير مشروعة للتسلق؛ ذلك أن بطل القصة ينتحل صفة الأديب الكبير، ويتسلق السلم الأدبي مستخدماً المال والعلاقات العامة، ويستدرج كبار الكتاب للكتابة عن أعماله دون استحقاق، ويصطنع مكانة أدبية أكبر من حجمه الحقيقي، حتى إذا ما رغب إلى الراوي، الأديب ومدرس الرسم، كتابة شهادة عن نفسه لإدراجها ضمن كتاب مع شهادات كبار الأدباء، ونزل الأخير عند رغبته، يقلب له ظهر المجن، ولا يجيب عن اتصالاته، ولا يدعوه إلى حفل إطلاق الكتاب. وحين يكتشف كاتب الشهادة أن دَعِيّ الأدب قد سطا عليها ونشرها باسمه، يحضر الحفل دون دعوة مسبقة، ويقوم بفضحه على رؤوس الأشهاد، من خلال سؤال يطرحه عليه حول تجربة أمل دنقل وإحسان عباس الأدبيتين، فيروح يسهب في الإجابة عن السؤال، باعتبارهما امرأتين تربطه بهما علاقة وثيقة، ما يفضح جهله ويظهره على حقيقته.
وفي قصة «تدريبات شاقة على الاستغناء» التي تمنح المجموعة اسمها، يتمظهر الخروج في انتهاك حرمة الآخر؛ ذلك أن سعود بطل القصة الذي يسيء فهم صديقه الراوي، ويظن أن الأرملة المثيرة المقيمة في الحي هي لقمة سائغة، يدفع ثمن سوء فهمه غالياً، حين يقتحم بيتها ملثماً، فتنهال عليه باللكمات والركلات، وتجمع الحي عليه ليشهد على فضيحته المدوية. وفي قصة «كلمات محذوفة من حيث قصير»، يتمظهر الخروج في الخديعة التي تلحق بالفرد، فيذهب ضحية منظومة اجتماعية متخلّفة، ويكون في موقع المخروج عليه وليس الخارج، هذه المرة؛ ذلك أن العريس الذي يخطب إحدى الفتيات، يفاجأ، ليلة الدخلة، أنه جرى إبدالها بأختها الكبرى التي تقل عنها جمالاً، ويشعر بالخديعة والصدمة. غير أنه حين يدرك أن العروس هي بدورها ضحية أب لا يحترم رغبات ابنتيه، ويرى «جسدها يفيض بتكوينات رشيقة لدنة» تستيقظ فيه طاقة حبيسة، ولا يقدم على أي تصرف متهور، ما يفتح النهاية على إمكانية المضي في العلاقة رغم الخديعة.
وفي قصة «خمسون ريالاً» يتم الخروج على المواضعات الاجتماعية بممارسة بطل القصة النصب على الآخرين، فيتحيّن المناسبات العامة، ويختار فريسته بعناية، ويقوم بطلب المال منها، حتى إذا ما تمنّعت عن الدفع، يلجأ إلى التشهير بها، على مسمع من المدعوين، فتضطر إلى الدفع دفعاً للإحراج، عملاً بالمثل المأثور: «لا تصارع خنزيراً في الوحل، فتتسخ أنت، ويستمتع هو». وفي قصة «سردية قصيرة لوداع مبكر» التي تجري أحداثها في مكة في مرحلة تاريخية مبكّرة، يتمظهر الخروج بتعاطي الممنوعات في حينه، فيقدم بطل القصة على شرب القهوة المحرمة اجتماعياًّ، ما يجعل محتسب المدينة يقوم باعتقاله، حتى إذا ما أطلق سراحه، ينصرف، في ثلة من أقرانه، إلى ممارسة المتع البريئة، المحرمة لدى الجماعة، من قبيل شرب القهوة وقراءة الكتب والاختلاء في الصحراء، وهو ما يثير حفيظة أخيه الأكبر الذي يمثل قيم الجماعة. غير أن الطامة الكبرى تكون حين يتواطأ عليه القدر مع الجماعة، فتلدغه أفعى، خلال عودته من رحلة برية، وتودي بحياته، هو المنخرط في حب الحياة حتى الثمالة، خلافاً لمعنى اسمه «زاهد»، فيكون اسماً على غير مسمى.
ميزة جميلة
وإذا كانت شخوص القصص المذكورة أعلاه تخرج على مواضعات الجماعة لأعطاب تعتورها وتدفع ثمن خروجها، فإن المفارق أن بطل قصة «الواقفون على عتبات البهجة»، مدرس الرسم والأشغال الفنية في مدرسة القرية، يخرج عليها لميزة يتحلى بها؛ ذلك أنه يتجرأ على العزف والغناء في حصة دراسية يناوب فيها عن مدرس غائب، ما يجعل المتعلمين يقفون على حدود البهجة، باستثناء أحدهم يرى أن الموسيقى حرام، فيتم نقل المدرس تأديبياً إلى مدرسة أخرى، ويدفع ثمن مخالفته الأعراف، في بيئة اجتماعية مغلقة. وهكذا، تتعدد تمظهرات الخروج على المواضعات العامة في المجموعة، وتتراوح بين التجسس على الآخرين، والانسياق وراء الغريزة، وانتحال الصفة، وانتهاك الحرمة، والخداع، والنصب، وتعاطي الممنوع، ومخالفة الأعراف. ويكون لكل من هذه التمظهرات ثمن معين تدفعه الشخصية الخارجة.
الفرد والمكان
يتعالق الفرد مع المكان في المجموعة في قصتين اثنتين؛ ترصد أولاهما «يوم عصيب في حياة الآنسة ريم» أهمية المنزل الأول في حياة سكانه؛ ذلك أن بطلة القصة التي تنتقل مع أسرتها من منزل إلى آخر، تحن إلى القديم، على ضيقه، وتشعر بالغربة في الجديد، على رحابته. ولعل مما يزيد في غربتها سقوط أبيها المريض ميتاً، في اليوم الأول من الانتقال. وترصد الثانية «ديستوبيا القرى المعزولة» تأثير المكان على معتقدات سكانه وأنماط عيشهم؛ ذلك أن أهل القرية البعيدة عن المدينة ومرافقها الصحية، يسقط في أيديهم حين يموت ابن المؤذن المصدور لعدم وجود العلاج، ويفاجأون حين يعود إلى الحياة إثر سقوط تراب من القبر على وجهه، حتى إذا ما مات فعلاً بعد مدة، يدفنونه قرب المسجد، ويبنون زاوية على قبره، باسم الولي الصالح، تغدو مزارا للمتبركين به. وحين تحدث الطفرة النفطية، في لحظة سنوية أخرى، تتم إزالة المسجد والزاوية، ويقوم مكانهما جامع كبير، وتسقط صفة الصالح عن الولي. وبذلك، يؤثر موقع المكان وتحولاته على حياة ساكنيه ومعتقداتهم.
الخارج والداخل
وغير بعيد عن هذه الثيمة القصصية، تأثر الفرد بمرئياته الخارجية وانعكاسها على اعتمالاته الداخلية، وهو ما نراه في قصتي «أمثولة الذاكرة الهشة وهواجسها» و»طعم الموتى»؛ ذلك أن بطل الأولى المتقاعد المريض يسحره جمال عيني موظفة الاستقبال، خلال مراجعته الطبيب، فيتخفف من الشعور بوطأة الزمن، ويحل عليه سلام داخلي، حتى إذا ما خرج من العيادة ورأى شاباًّ غليظ الملامح، ضخم الجثة، مكانها، يغرق في لجة اليأس من جديد. أمّا بطل القصة الثانية الذي يعاني البطالة، ويشعر بالرتابة والعبثية واللامعنى، يشكّل اطلاعه على رسالتين دسهما رجل غريب في تراب زوجته في المقبرة المجاورة، يعبر فيهما عن تعلقه بزوجته ووفائه لها ورغبته في الالتحاق بها، نقطة تحول في حياته، حتى إذا ما لحق الزوج بزوجته ودفن إلى جوارها، يقوم بزيارات دورية لقبريهما، واضعاً عليهما باقات الورد، قارئاً لهما الفاتحة، فيشعر بمعنى الحياة، ويستعيد براءته، ويتجرد من هموم الدنيا، وينسلخ من جلده القديم. وهكذا، تقول القصتان تأثير المرئيات الخارجية على المشاعر الداخلية.
إلى ذلك، يتناول العلوي في قصتين أخريين تعالق الفرد مع ذاته؛ فيعكف بطل قصة «الأيام الخمسة الأولى للعزلة» على ركنه الأثير في المنزل، بعد جولة بسيارته، خلال العطلة القسرية الناجمة عن وباء كورونا عام 2020، ويستغرق في القراءة مدركاً سلامه الداخلي، وهو ما تفعله بطلة قصة «صندوق جدي القديم» التي ترث عن جدها كتاب «ألف ليلة وليلة»، طبعة بولاق 1845، فتقبل على قراءته مراراً، وتعثر في كل مرة على المتعة والانبهار. وحين يعرض عليها بعض الأثرياء مبلغاً طائلاً لتبيعه الكتاب، ترفض البيع عملاً بقول الجد: «المتع مثل اللحظات السعيدة تُمنح ولا تُباع».
وعود على بدء، «تدريبات شاقة على الاستغناء» مجموعة قصصية متنوعة، في الشكل والمضمون. تعكس حيوية صاحبها ومحاولاته اجتراح أشكال جديدة في التعبير، ولن يعود قارئها من الغنيمة بالإياب.
كاتب لبناني