
الكلام المُزْري

توفيق قريرة
« الكلام المِرْزِي» عبارة عامية تونسية نصطلح بها على الكلام المؤذي، الذي لا يعرف صاحبه مقدار أذيّته أو يتجاهل شدّة وقعه على النفس. في العربية الفصحى المَرْزُ الذي ربما نسبت إليه عبارة «المرزيّ» تعني في الفصحى القرص بأطراف الأصابع قرصا رقيقا غير موجع، فإذا صار موجعا سمّي قرصا. والمرز يعني أيضا العيب والشين والضرب باليد. وغير بعيد عنه عبارة فصيحة هي المُزْرِي من أزرى بكلامه أو على كلامه، عابه وحقّره وانتقص من قدره. وقد تكون عبارة المرزي المحلّية قلبا من المرزي من يدري؟
المهمّ أنّ الكلام الذي يقال لك ليؤذيك ليس كلاما يمرّ سريعا؛ إنّه بمثابة الضرب أو اللطم الموجع لكنّه ليس باليد بل باللسان. يكون اللسان جارحا تماما كاليد وقاطعا تماما كالسيف وليس في الأمر استعارة من وجهة نظر عرفانية فإن تؤذي باليد شيء وأن تؤذي باللسان شيء شبيه والأمران يجتمعان في الأذيّة.
من بين الاستعارات الأكثر شيوعا في اللغة اليومية، نجد استعارة [الكلام سلاحا] وفي إطارها نجد عبارات من نوع (ما هذا الكلام الجارح؟) أو (قتلتني كلماتكǃ) و(أصابتني كلماتك في مقتلǃ). هذه الاستعارات ليست استعمالات مجازية، بل هي طريقة يبني بها المتكلم آلاما فعليّة لوقع الكلام عليه. وهي عبارات تؤوّل عرفانيّا على أن الفعل اللغوي يمكن أن يُعامل على أنّه فعل مادي يسبب الأذية. فعندما نصف الكلمات بأنّها طلقات أو سيوف، لا نريد أن نقرّب أو نشابه أو نقيس، بل نحن فعلا نشعر بوقعها المؤذي، نحن نعتبرها فعلا يؤثر بشكل مباشر على النفس، تماما كما يفعل السلاح.
ناومي ايسنبارغ Naomi Eisenberger عالمة نفس اجتماعي أمريكية معروفة بأبحاثها حول الأساس العصبيّ للألم الاجتماعي، والتواصل الاجتماعي. في مختبرها، تستخدم تقنيات سلوكية وفسيولوجية وتصويرا عصبيا لفهم الكيفية التي بها تُؤثر حاجتنا للتواصل الاجتماعي في عقولنا وأدمغتنا وأجسادنا، إنّ البشر حين يشعرون بالرفض أو الاستبعاد، غالبا ما يصفون مشاعرهم بكلمات تُعبّر عن الألم الجسدي، مُشتكين من أنهم منكسرون أو مجروحون، وهم فعلا يشعرون بشدّة الألم لأنّ الشعور بالاستبعاد الاجتماعي، يُنشط بعض المناطق العصبية نفسها، التي تُنشط استجابة للألم الجسدي وهذا يعني أنّ الرفض الاجتماعي قد يكون «مؤلما» بالفعل، وبالإضافة إلى التأثير الفوري للكلمات على الدماغ، فإنّ الذاكرة العاطفية تلعب دورا حيويا في تفاعلاتنا مع الألفاظ المؤذية. ذلك أنّ الأشخاص الذين تعرضوا للكلام الجارح أو الإهانة في مراحل معيّنة من حياتهم، قد يتذكرون تلك اللحظات لفترات طويلة، بل قد تؤثر هذه الذكريات على سلوكهم ومستوى راحتهم النفسية. وتؤكّد الأبحاث في هذا المضمار أنّ الشخص الذي تعرض للإهانة اللفظية، يمكن أن تكون لها نتائج سلبية على صحّته العقلية. وعليه، يمكننا أن نرى كيف أنّ الكلام المؤذي لا يقتصر على تأثيره الآني، بل يشكل جزءا من عملية إعادة تشكيل الذات. الكلمات الثقيلة والخشنة ليس لها فعل الآثار المخزنة في الذاكرة فحسب، بل هي ترسبات تتراكم في الذاكرة العصبية، ما يؤدي إلى تشكيل تصورات نفسية قد تكون عميقة ودائمة، فالإنسان لا يعاني فقط من ألم نفسي جراء الكلمات الجارحة، بل إنّ الدماغ يعامل هذه الكلمات كنوع من الألم الواقع فعلا على الجسد: هي ليست جارحة مجازا، بل هي جارحة فعلا لا في وقت إصدارها فقط ، بل في ترسيب الذكريات وفي الحفر العصبيّ.
[اللغة معركة] هي استعارة أخرى يُدرك فيها الحديث على أنّه صراع، حيث يسعى المتحدث إلى الانتصار أو إلى سحق خصمه بالكلام. .هذه الاستعارة تدلّ على أنّنا ونحن نتحدّث في حالات التوتر والخصومة، أو حتى في الحالات التي نتظاهر فيها بالمزح الثقيل أو السخرية المرّة نحن نستخدَم الكلام أداة للهيمنة، أو التسلط، حيث تتحول اللغة إلى وسيلة للإذلال والإسكات، بدلا من كونها وسيلة للتواصل. وتُستخدم عبارات للإشارة إلى محاولة إسكات الشخص الآخر، أو منعه من التعبير من نوع (أغلق فمك) أو (صهǃ) أو غيرها من التعبيرات التي تعكس الهيمنة اللغوية، حيث يُمنع الشخص من التحدث بحرية، ويفرض عليه الصمت بالقوة الرمزية للكلمة.
مثل هذه الاستعارات تُظهِر كيف أنّ الكلام ليس محايدا، بل قد يكون أداة قمع تُستخدم للتقزيم من الآخر وإقصائه عن مجال الفعل اللغوي. ومن خلال هذه الاستعارات العنيفة، يمكننا أن نفهم كيف أن أذية الكلام لا تتمثل في الكلمات، في حد ذاتها فقط، بل في التصورات التي تكمن وراءها والتي تعكس بنى ذهنية وتمثيلات تشرّع لهذا النوع من العنف وتصبح اللغة لا أداة لوصف الكون، اللغة، في هذا السياق، ليست محض أداة تواصل، بل أداة تحكم. وقد بيّن العرفانيون كيف أنّ هذه الاستعارات ليست من الحقل البلاغي، بل هي جزء من نظام عرفاني وثقافي يعكس تصورات عن القوة، والسيطرة، والهويّة، والتفوق. وبناء عليه، يصبح للغة المؤذية بعدٌ أبعد من مجرد إيذاء لفظي، فهي مرتبطة بشكل وثيق بأنماط ثقافية تسهم في تعزيز السلطة، وتكريس الهويات المهيمنة والمتعادية.
تتجاوز أذية الكلام في النظرية العرفانية مجرد كونه فعلا لغويا مستندا إلى قواعد بنيوية أو شحنات عاطفية مؤقتة. فهو يتجسد أيضا في النماذج الذهنية والصور النمطية الثقافية التي تُكشف عن البنى التي بها نبني تصوّراتنا للآخرين، والطرق التي بها نفكر ونُعبّر عن العالم والآخرين. ووفقا لنظرية جورج لايكوف G. Lakoff حول المناويل العرفانية المؤمثلة (Idealized Cognitive Models – ICMs)، فإنّ الكلمات والمفاهيم في لغتنا، تنتمي إلى أطر ذهنية وتستدعيها عند الحديث، فأذية الكلام لها أطر ذهنية تسيرها تكون محكومة بتصورات عميقة حول الهوية، والجندر، والعرق، والطبقة الاجتماعية وغيرها من العوامل الثقافية، التي تحدد كيف يرى مُنْزِلُ الأذية بالكلام الآخرَ المهاجَم.
من خلال فهم المناويل العرفانية، التي تنتج عنها أذية الكلام، يصبح من الممكن كشف حقيقة العلاقة بين البشر، ولكن أيضا يصبح من اليسير الكشف عن ذواتنا العميقة وما فيها من ترسبات ونزوع إلى الاعتداء على من يعتقد أنّه في المرمى، وأنّ علينا لكي نعيش أن يمّحي العدو ولو كان ذلك على سبيل الكلام. ليس من المفيد أن نعلم حقيقة العلاقة القبلية أو البعدية بين المتآذين بالكلام، فتلك مسألة مهمّة في فهم الخلفيات الذاتية لكنّ المهمّ أن نعلم أنّ الكلام المرزي هو اختيار نابع من تصوّر للذات وللآخر وللكون، تصوّر يمكن أن ينقلب على تصوّر قديم أو يثأر من صنم كان يعبد قبل أن يكتشف أنّه مزيّف وخارج الأنساق العبادية الراهنة. أن تكون منتجا للكلام المزري يعني أنّك أيضا داخل في سياق من التعادي، الذي فقدت فيه كلّ قدرة على استعمال السلاح البدائي، سلاح القتل والحرب والإبادة وعدت أدراجك إلى سلاح وريث هو سلاح الكلام. من الممكن أن أجرح بيدي ولكنّ ذلك يتطلب جهدا وأظافر وخدوشا واحتكاكا للأجساد، ولكنّي يمكن أن أرمي من بعيد بالنبال، فإن لم يكن فبالسهام فإن لم يكن فبالحجر فإن لم يكن فبالكلام، وذلك أضعف الإيمان، الإيمان بأنّ الإنسان كائن كتب عليه أن يكون محاربا لا يعرف ما معنى السلام إلاّ بعد أن يخوض غمار حرب الكلام.
أستاذ اللسانيات في لجامعة التونسية