ثقافة وفنون

أمام بوابة سجن صيدنايا

أمام بوابة سجن صيدنايا

مزهر جبر الساعدي

عندما وصلت إلى سجن صيدنايا، أبصرت شرطيا يقف ليس بعيدا عن بوابة السجن وعن جموع الناس. وقفته هذه استفزتني، أو دفعتني لمعرفة سر وقفته هذه، في هذه الدقائق المشحونة بالخوف والترقب، بالنسبة لمهنته، على مقربة من جموع مكلومة. بين سؤال مني له عن عمله وأمور أخرى ملموسة رأيتها فيه، أثارتني، وجواب مختصر، أو بإيماءة منه إليَ عن أسئلتي له. تأكدت أنه مضطرب وخائف وقلق، من تأتأته وطبيعة أجوبته، رغم أنها من كلمة واحدة، نعم، لا، أو الصمت بلا رد.
يرفع رأسه فوق رأسي، أو يديره إلى أحد جانبيَ؛ ينظر إلى بوابة السجن مرة، وأخرى إلى بوابة مؤسسة الأمن، حيث جموع الناس في المكانين. أثناء كل هذا يدمدم بكلمات غير مفهومة، أو فيها تأتأة، أو شيء منها في مخارج الكلمات التي تخرج من فمه رغما عنه، عندما يبحلق مليا في الجموع. تأكدت أنه في محاولة منه؛ يتجنب أسئلتي له، أو أنه مشغول بأمر ما، لم يشأ أن يفصح لي عنه؛ على هذا الشكل كان خيالي يرسم لي صورته. فكل جزء من جسده كان يرتجف، أو هكذا رأيته في وضعه هذا، الذي هو فيه؛ من ترقب يجلله الخوف والقلق والاضطراب على قاعدة من الحرص في البحث عن أحد ما.
الأمر الذي أثار استغربي، أني رأيته رغم خوفه، كان يحتضن كيسا من البلاستيك القوي، بكلتا يديه، على صدره تماما؛ كأن أريج حياته في هذا الكيس، أو كأن سلامته وأمنه الشخصي يستقر هنا في الكيس. كما أنه لم يعطني إجابة عما فيه، رفض رفضا قاطعا، بصمت مطبق تماما. الشيء الآخر الذي استفزني، أو أثار في نفسي بعض الشك؛ انه لم يتحرك أو لم يذهب بعيدا عن بوابة السجن العملاقة، ولم يفر كما فرّ أقرانه قبل وصول الناس إلى الساحة وعلى مسافة قريبة جدا من المؤسسة الأمنية، والتجمهر الكبير في المكانين؛ بدايته أمام بوابة السجن، ونهايته في الساحة، حيث أبواب المؤسسة الأمنية. وكما قال هو لي، في المرة الوحيدة التي تكلم معي فيها بوضوح؛ إنه، واحد من الذين يعملون في السجن. بعد جملته هذه، صمت، لم يتوسع في الشرح عن مهام أعماله، أو ماهية عمله في السجن، رغم إلحاحي عليه. سألته، لماذا لم تذهب كما غيرك ذهب، قبل الآن.
امتنع عن الإجابة بهزة قوية من رأسه، حتى إني تصورت أن الخوف الذي كان، كما تصورت واهما إنه ضحيته، قد افترسه. لكنه بعد دقيقة أو دقيقتين؛ تغلب على خوفه، فقد استعاد تماسكه كليا، وجدتني أتلمس تماسكه هذا، حين بدأ يبحلق بعينيه في جميع الاتجاهات، وركز عينيه على تجمع من الناس، كان كبيرا جدا، وكان أيضا على شكل دائرة. قلت مع نفسي وأنا ما أزال أقف أمامه:
– ربما هو يبحث عن مخرج له أو عن طريق النجاة، فقد سدت جموع الناس كل مخارج الطرق والجادات إلى الأزقة والدروب الفرعية. مع أني في قرارة نفسي، وحسبما رأيت؛ أن أحدا من الناس، لم يقم بما كان هذا الشرطي خائفا منه. لذا، وكي أجعله يطمئن أكثر، قلت له مع أني أحسست بتغيره، وباستعادته رباطة جأشه.
– لا تخف مني، أنا كاتب؛ أبحث عن الحقيقة أولا وأخيرا، ليس مني فقط، بل حتى من هؤلاء الناس، لأنهم هنا للبحث عن محبيهم، من الأهل والإخوان والأبناء، وربما غيرهم. ثم أنت شرطي مأمور لا علاقة لك بكل هذا الذي جرى؛ ولست صاحب قرار وأمر. أجابني، إجابة كانت لي مفاجأة، أو لم أكن اتوقعها منه.
– المسألة أكبر وأعمق مما صورها عقلك لك، المسألة كلها ليس خوفي على حياتي أبدا، لأني أعلم أن ليس هنا أو هناك، أو في اي مكان آخر، من له القدرة أو لديه إمكانية أن يقدم على إلحاق الأذى بي. خوفي وقلقي هو على الحقائق الأرشيفية والتاريخية، سوى ما كانت قد حدثت داخل أسوار السجن أو خارجه، ليس خوفا عليها من الضياع، فهي أمانة عندي، سوف أحافظ عليها.. ثم اخذته صفنة وهو يحدق مليا في لمة الناس التي بدأت تكبر، وتتحول لشكل دائرة. قلت مع نفسي، ربما الرجل صدم من سقوط النظام وهروب رئيسه، ما أثر سلبا، على توازنه العقلي. في هذه الثواني قال قاطعا صمته، خوفي ألا اعثر على صاحبها. لذا، تراني أحدق مليا في الناس. قلت له- لم ارَ شيئا تحمله. لم يجب! عندها تأكدت أن الرجل فقد عقله. فهو ما زال يرتجف. إذن، لماذا ترتجف، إذا لم تكن خائفا. أجابني – إنه البرد. ثم أني ضابط عسكري مجند، جندت قبل أشهر من الآن، حال تخرجي من كلية القانون والسياسة. ووضعوني هنا، للعمل ضابط شرطة عسكرية، أقصد أمن السجن، لم أكن راغبا فيه أبدا. الأمر الآخر حين سقط النظام، قبل ساعة أو أقل أو أكثر؛ كنت في البيت، وعندما سمعت بسقوطه؛ جئت إلى هنا مسرعا، ارتديت ملابسي العسكرية، من دون أن أضع الرتبة على كتفيَ، ومن دون أن ألبس تحتها ما يدفع عني شدة البرد؛ ليس لأني خائف، بل لأني كنت في عجلة من أمري. تحرك ببطء مبتعدا. تركته واندفعت مسرعا إلى اللمة شديدة الازدحام بالناس، هي نفسها، أو هي الدائرة ذاتها التي كنت قد رأيتها قبل دقائق قليلة، إنما هذه اللمة قبل دقائق كانت قليلة العدد، لم أعرها الأهمية، حين كنت في حوار مع الشرطي هذا، أو مع ضابط الشرطة الأمنية هذا، حسبما ادعى. اصبحت الآن مكتظة اكتظاظا شديدا بالناس، الذين يتدافعون إلى مركز الدائرة. عندما صرت واحدا من زحام الناس؛ عرفت سبب تدافعهم. كان هناك رجل يخطب فيهم، أو الأصح يسرد سردا بدا لي مؤثرا عن حياته في السجن. وقفت، بعد موجة من التدافع لأكون قرب رجل شديد النحافة، كان جسد الرجل ضامرا حتى إني تصورت أنه سوف يخر ساقطا على الأرض في أي لحظة، كان شاحبا بدا لي كأنه قد من الشمع. اقتربت منه خطوتين؛ أصبحت لصقه. رغم الشحوب وضعف الجسد، كان صوته جهوريا واضحا وضوحا كاملا، الكلمات وهي تخرج من فيه، كانت رصينة جدا، وصياغته للموضوع الذي تابع سرده. فقد كان قد بدأ السرد قبل اقترابي منه، صياغة متسقة ومفهومة وواضحة كل الوضوح. تيقنت من أن الرجل، على الرغم مما مر به؛ يتمتع بحضور طاغ، وسيطرة وتمكن كاملين. من بين ما قال، ويتابع القول فيه، قوله – كل الحقائق هذه كنت قد سجلتها في سجل كبير..
انشغلت عنه أو عما كان يسرد قولا، بإخراج هاتفي النقال من حقيبتي المعلقة بحمالتها على كتفي.
قربت هاتفي من فمه، لأحصل على تسجيل واضح لسرد هذا الرجل، الخارج توا من سجن صيدنايا.. سجن من تلك السجون التي عرفتها البشرية قبل قرون خلت، في امبراطوريات عصور الظلام والقهر والظلم للأرض والإنسان والحرية والحياة، والعبودية ومصادرة العقول وتغييب حق التفكر والرأي. كانت مفاجأة حين فتحت الأبواب، في البداية أو الوهلة الأولى أخذني الخوف، فقد كنت قد تعرضت للتعذيب، على مدار شهر كامل. ثم توقفوا عن تعذيبي منذ أسبوعين. كان كل هذا التعذيب هو أن أكشف لهم، مكان السجل، أو في أي مكان أخفيته. حتى وصل خيالهم أني ربما كنت قد سربته، بطريقة أو بأخرى إلى خارج السجن. كانوا يطلبون مني أن أدلهم عليه، أو اسلمه طوعا لهم، أو أن أعلمهم في أي مكان هو الآن خارج جدران هذا السجن. كنت أقول لهم وأنا تحت التعذيب، كيف أخرجه، والسجل لا وجود له إلا في خيالكم. قلت لهم، وأنا تحت التعذيب، إن كان له وجود، اسألك أين اختفى؟ فقد فتشتوا كل زوايا السجن، لم تبق بوصة من أرض السجن لم تقلبوها.

ثم إنكم تسألونني عن الكيفية التي بها سربته خارج جدران السجن، كيف أسربه، وأنا في سجن انفرادي، منذ أكثر من سنة؛ لا ألتقي بأحد ولا أحد من السجناء يلتقي بي، وليس هناك من يزورني مطلقا؛ لأنكم منعتم زيارات اهلي لي منذ سنتين. استمروا في تعذيبي، إلا أني صمدت، رغم قسوة ما تعرضت له من تعذيب، لم يتمكنوا من معرفة مكانه أبدا. كنت أحرص عليه حرصا أكثر وأقوى من حرصي على حياتي. فقد دونت فيه؛ آرائي كلها، وهي وبكل تأكيد حين يعثرون عليه، ويقرأون ما فيه؛ تكون عندها نهايتي الحتمية، ونهاية آخرين غيري. لذا ولأسباب أخرى؛ صمدت ولا أفاخر إذ أقول لكم لو استمروا في تعذيبي أشهر أخرى ما أفصحت عن مكانه أبدا. تقولون.. أنت بطل، كلا أنا لست بطلا؛ البطل هو.. هنا وفي هذه الثانية، أو قل في رمشة جفن العين هذه؛ دوت في المكان صرخة أو صيحة.. أستاذ عماد، انه هنا، هذا هو، كانت يداه تهز السجل عاليا فوق الرؤوس.. التفت إلى صاحب الصرخة أو الصيحة؛ فاذا به صاحبي الشرطي أو الضابط العسكري المجند، في الشرطة العسكرية الأمنية.

قاص عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب