
تفكيك قصيدة «الرُخ والحليبُ الأسود»: شعرية العبث المنظّم

رسول عدنان
هذه القصيدة لحسين مردان من ديوانه «الأرجوحة هادئة الحبال» الصادر عام 1958
سأقوم بتقطيع هذه القصيدة إلى عدة مقاطع لتسهيل عملية تفكيكها والدخول إلى عوالهما وهي قصيدة نثر كُتبتْ على شكل مقال وهو الشكل الذي كتب به ألويسوس برتران أول ديوان في قصيدة النثر واسمه «جاسبار الليل»..
تستمد قصيدة النثر شرعيتها ووجودها من اللاغرضية أو المجانية في القول، أي من اللاقصدية، وقد دارت عوالم هذا النص في شعرية حركية متلاحقة، حيث يقفز الشاعر بين الفقرات دونما تخطيط، بل بعفوية تامة وتلك هي المجانية وكأنه يصور مشاهد يومية بشكل عبثي مدروس، إنه يؤرخ ما يفاجئه ويُدهشُه ويحيره ويقلقه، وسرعان ما ينتقل من صورة مكثفة إلى صورة أكثر تكثيفا، ليَدخلَ في عوامل غرائبية تكون اللغةُ فرشاتَه في رسم لوحته، إنه بوحٌ غيرُ ممنهج، غيرُ مدروس، لا غرضي، ترجمةٌ لاعتمالاتٍ نفسيةٍ يختلطُ فيه الواقعي واليومي العابر. واللافت إن الشاعرَ كتبَ نصه على شكل مقال أي كتلة، وهي الطريقة الأصلية في نسخة قصيدة النثر الفرنسية منذ برتران، ومن دون الاطلاع على ديوانه «جاسبار الليل»، وهذا يؤكد السبق في كتابة قصيدة النثر العربية لحسين مردان، في هذا النص امتزج الواقعي والخيالي، حيث قادا إلى السحري في وصف عوالم نصه، والملاحظ في القصيدة هو التنقيط والفواصل وقصر الجمل، وهي التقنية ذاتها التي استخدمها مخترع قصيدة النثر ألويسوس برتران في ديوانه «جاسبار الليل».
دلالة العنوان
عبر حوار درامي يقود إلى التضارب بين الواقعي والخيالي، وضياع النفس البشرية يكوّن الشاعر عوالم قصيدته، التي تبدأ بتوظيف واقعي عبر نسيم ووردة وقمر شاحب، ورجل بصوته الثخين، ثم ينعطف إلى حبيبة متخيلة، حيث عينها قريبة من قلبه، ليتنقل إلى الخيالي فجأة، عبر حدث الكارثة، وانهارت الصخور في أعماق الجبل، ليصف المشاهد التالية بشكل واقعي استله من الخيالي، الذي يقود إلى اللاغرضية في الوصف عبر المقطع، ربما لأن نفختك للريشة كانت أقوى، ثم يعود في المقطع الثالث إلى الخيالي من خلال، أنظر إلى الرؤوس العائمة في الفضاء ويستمر في وصف خيالي باهر إلى، ركبت البساط إلى إستنبول ، ثم يعود إلى الواقعي من خلال فهناك وفي شرفة من الطابوق الأشهب، ويستمر حتى نهاية المقطع، حتى تجلس حبيبته إلى جانبه لتجمّدَ كل شيء كان حارا، وفي المقطع الأخير يمزجُ به الخيالي والواقعي من خلال تعاطٍ غير غرضي في صياغة أبيات قصيدته عبر مونولوج درامي تنقل به الشاعر في أغراض شعرية هي لب وأصل هذا النوع من الشعر، وبذلك اجتاز كل من عاصره ومن جاء بعده من شعراء ليقدم لنا النموذج الأصلي لقصيدة النثر بلغة عربية.
المقطع الأول
(كان النسيم البارد يلتف داخل الوردة، والقمرُ الشاحب يتدلى فوق الحائط، كرة بلور أصفر، وبعيدا خلف حاجز من الخشب القهوائي، انتصب الرجل يتحدث عن قضية مهمة. وكان صوته الثخين يقفز فوق السلالم ويسقط حول أذني حفنة من الحروف الطائرة.. ولكنني لم استوعب كلمة واحدة.. قلت ذلك بخفوت وبرقة. وخيل إليّ أن الصدى سيخدش وجنتها المستديرة! ولم تظهر على عينها القريبة من قلبي أي استجابة سعيدة. غير أني شاهدت فوق شفتيها السمينتين ظل ضحكة صغيرة أشبه بعصفور أخضر يلوب داخل قفص من اللؤلؤ).
يبدأ الشاعر قصيدته بوصف رومانسي مهيئا إياها إلى تشظيات دلالية أخرى عبر الصور المتلاحقة، فهنالك نسيم مع وردة وقمر قريب إلى حائط، وأيضا هنالك رجل بصوت ثخين فوق السلالم، في هذا المقطع مزاوجة بين الرومانسي والواقعي، وبالتفاتة أخاذة يصف وصول صوته بالحروف الطائرة، كناية عن كلامه الصاخب، الذي لم يكن الشاعر لينتبه إليه لانشغاله بصورة أخرىـ تلك التي رسمها لامرأة كان يخشى عليها من صدى هذه الحروف الطائرة الصاخبة، التي تكفل وقعها أن يجعلها تطلق ضحكة صغيرة، ثم يعمد إلى تشبيه رومانسي رائع، واصفا إياها بعصفور يلوب داخل قفص، حيث تمكن الشاعر من إعداد الجو العام لمسرح قصيدته بعناية فائقة، من خلال تفاصيل صغيرة ودقيقة جداً وزعها باقتضاب دون حشو على شخوص هذا المقطع حالة المكان، والحديث الصاخب للرجل الذي يقف على السلم، والمرأة ذات الضحكة الصغيرة.
المقطع الثاني
(وهنا حدثت الكارثة – وانهارت الصخور في أعماق الجبل، واختلط الرمل بماء الينابيع وتلطخت الزهور بالوحل.. وتلفت حولي كأسد أصيب بطلقة طائشة.. آه.. إني أقتل دائما من قبل المرأة.. ورجعت إلى جحيمي وأنا أرتعد من الغضب – واستمر الحوار وسط النار.. إنه جواب بريء – كلا ـ إن فيه نبرة جافة، قيرة صناعية.. ربما لأن نفختك للريشة كانت أقوى مما تريد، ليكن فهي ليست سوى حبة عنب أشقر، وغدا ستنفجر على أصبع غبي- ولن تجد مثل هذا الجبين أبدا – وانكمش وجودي كله – لتبتسم فقد ماع الفص ولم يبق في السلة أي أثر للحرير).
فجأة ينعطف الشاعر إلى رسم صور متلاحقة يهيئ لها فضاء القصيدة، بما يشد قارئه من خلال مفردة – الكارثة – فهنالك صخور تنهار تسببتْ باختلاط الرمل بالماء والزهور بالوحل، وكأن ما أحدثه وجود المرأة أمام الشاعر، هو هزة وصلتْ إلى مستوى طلقة طائشة، فالمعروف عن الشاعر شبقُه الجنسي وتعطشُه لجسد المرأة، لذلك قاده هذا الشبق ولهاثه وراء الجنس إلى إصدار ديوان شعري قاده إلى السجن هو ديوان قصائد عارية، وهذا ما يبرر وصفه لهذه اللحظة بطلقة طائشة، او أني أقتل دائما من قبل المرأة، فهو يصف حواره معها بوسط النار، رغم أن جوابها كان بريئاً، ثم يصف تنهداتَه التي أطلقها من خلال نفخة ريشة، وبعد أن استدرك نفسه وجد أنها ليست سوى حبة عنب أشقر مستدركا وصفه هذا بـ(ستنفجر على إصبع غبي).
المقطع الثالث
(ورحت أنظر إلى الرؤوس العائمة في الفضاء- لماذا جئت؟ إني رجل حُكم عليه بالوحدة- وقد سبق وأن شُنِقتْ أشواقي في غابة الصبار- لا.. يجب أن لا أخرج من صندوقي الخاص وانتحب الشعر في دمي.. وما الفرق! إنها من نفس الطين الملون.. والجمال؟ إنها لجميلة هذه الفرخة الرائعة – مرمر ونقطة نور – وغصن في درب آخر- وركبت البساط إلى إستنبول). يدخل الشاعر في هذا المقطع بحوار خيالي حيث الرؤوس العائمة في الفضاء، حيث يدخل عبر هذا المقطع باللاغرضية والمجانية، من خلال عدة مقاطع، شنقتْ أشواقي في غابة الصبار، لا أخرج من صندوقي الخاص، وانتحب الشعر في دمي، من نفس الطين الملون، مرمر ونقطة نور، حتى يختتم المقطع بـ: ركبت البساط إلى إستنبول – الملاحظ أن الشاعر وضع كل هذه الصور المتلاحقة من خلال شحن مجاني واستدراك لا غرضي وضعها كجملة اعتراضية بين خطين، ليرسل رسالة إلى القارئ، إنها بعض هذيانات نفسية واعتمالات روحية اختلجت بنفس الشاعر أثناء رؤيته للمرأة، وهو المعروف كما أسلفنا بشبقه بالجنس والنساء.
المقطع الرابع
(فهناك وفي شرفة من الطابوق الأشهب ينتظرني الوجه الآخر-! واه هنا أفرم أحشائي قرب خصلات شعر غلامي – وابني عمارة من الحسرات الصامتة – وهي أبدا تلعب بين أهدابي وتسخر من الإعجاب في حدقتي.. ونهضت لتقوم بنزهة في الحديقة- حديقة في حديقة! وعادت لتجلس في مكان لا يرى.. وعندما جاءت إلى جانبي كان كل شيء حار قد تجمد إلى الأبد). في هذا المقطع يعود الشاعر إلى الوصف الواقعي لمسرح القصيدة، حيث وجود شرفة من الطابوق الأشهب تقف المرأة بها بينما في الطرف الآخر يقف الشاعر متحسرا متمنياً إياها، واصفا هذه الحسرات بعمارة من الحسرات، وهي تتغنج أمامه بسخرية، ثم يصور الشاعر بشكل واقعي ساحر كل حركاتها، وهي تقوم بنزهة داخل الحديقة وتنزوي في مكان لا يُرى ثم تقترب منه، ومن حرارة جسده التي ارتفعت نتيجة لشبقه، لكن ما أن اقتربت منه فإذا بكل شيء حار قد تجمد وهذه كناية عن السعادة التي شعر بها أثناء اقترابِها منه
المقطع الخامس
(وفي تلك اللحظة الحزينة – لحظة موتي ـ ظهرت عزيزتي الحقيقية، مثل أنبوب حليب في زجاجة سمراء – فنهضت الموسيقى في أعماقي، واختفت كل صور الجمال الأخرى ـ فصحت يا لدوائر العسل ـ واعتذرت لصورتها في قلبي- وتمنيت أن أمزق حنجرتي واستل آلاف الأغنيات التي أحتفظ بها من أجل عينيها- وتعقبت نغمات خطواتها الرشيقة – فيالفرحي العظيم).
فجأة – وبعد أن استدرجنا – يعود إلى واقع حاله وهي اللحظة الحزينة ليصف معشوقته مثل أنبوب حليب في زجاجة سمراء ويبدو لي إنها كناية عن لونها الأسمر، عندها تعلو الموسيقى وهي كناية عن السعادة التي شعر بها، ومن خلال مقاطع خيالية يصف لنا الشاعر شعوره المفعم برؤيتها بعدما وجد أنها تختلف عن تلك الصورة التي كان قد رسمها لمعشوقته، لذلك استخدم الأفعال اعتذرت، تمنيت، أمزق، أستل، تعقبت، هذا الكم من استعمال الأفعال له دلالة على وقع ما حدث، فهو اصطدم بصورتين الأولى كان قد رسمها لمعشوقته بقلبه وخياله، والأخرى التي رآها وهي سمراء، لذلك التجأ إلى جملة من الأفعال ليصف لنا حالته النفسية بين الفرح والمفاجأة، وهو يتعقبُ خطواتها الرشيقة ليختتم هذا المشهد بوصف فرحه العظيم بها.
الخصائص الفنية للقصيدة:
جاءت هذه القصيدة كمحاولة لسبر أغوارالنفس البشرية في مواجهة القدر، عبر مونولج شبه درامي صاغه الشاعر عبر حوار شعري، امتزج به الخيالي والواقعي من خلال مفهوم قصيدة النثر الأصل واقصد النموذج الفرنسي، سواء عند برتران في «جاسبار الليل» أو مقلدوه مثل بودلير في «سأم باريس» أو رامبو في إشراقاته أو مالارميه في «رمية نرد»، الذين قلدوا برتران واتبعوا أسلوبه في قصيدة النثر، لكن اللافت، أن حسين مردان لم يقرأ برتران، وعندما شرع في كتابة ديوانه هذا عام 1956 وطبع عام 1958 لم يكن برتران قد ترجم، ولا ديوان «سأم باريس» أو «إشراقات» رامبو، لكننا نرى مردان قد صاغ قصيدته هذه وبقية قصائد هذا الديوان بالفطرة، فجاءت قصيدة نثر خالصة، وبالخصائص ذاتها التي اعتمدها الشعر الفرنسي، وبذلك يكون مردان الرائد الحقيقي لقصيدة النثر العراقية والعربية، وأول من صاغها على الشكل الأصلي دون أن يطلع عليه.
الدلالتان النصيتان في القصيدة:
من خلال عتبة النص التي تحيلنا إلى دلالتين ظاهرة ومضمرة، فالعنوان يوحي بشعرية حركية، أو دلالة ظاهرة وهي طائر الرُخ والحليب الأسود، وحتى نعرف من هو طائر الرخ؟ ومن هو أو هي الحليب الأسود؟ علينا أن نكشف الدلالتين النصيتين الحركتين في عتبة النص وانعكاس النص وأحداثه على كل منهما من خلال تحليل العلاقة بينهما..
الدلالة الأولى وهي الظاهرة:
طائر الرُخ، من هو وما هو وما دلالته في النص؟ هو طائر أسطوري ورد اسمه في كتاب «ألف ليلة وليلة» باسم طائر العنقاء، وهو طائر نبيل يولد من الرماد، وقد ورد في أساطير عدة حضارات أيضا، وهو ذاته طائر الفينيق لدى الإغريق والأوروبيين، لكن ما هي دلالته في هذا النص؟ هل هو رمز للشاعر الذي وظفه من باب التجريد؟ ليرمز إلى كل الظروف السيئة التي أحاطت بالشاعر من تشرد وضياع ومعيشة ضنك وحياة بوهيمية، وكان يعيش قرب المزابل والرماد، ويولد شاعرا ينهض بالشعرية العراقية تماما مثل طائر الرخ، أو العنقاء الذي لا يموت بل يبقى خالدا يتوالد من اللاشيء من الرماد، وهل الحليب الأسود المقصود به هي تلك المعشوقة السمراء التي وصفها في المقطع الخامس، الذي مهد إلى تلك الظروف التي يولد بها طائر الرخ وهي من النار والرماد وهذه دلالة أخرى على إحالته في المقطع الثاني (ورجعت إلى جحيمي ) و(واستمر الحوار وسط النار) فهل المقصود بالجحيم هنا هي الحياة التي يعيشها الشاعر؟ أم أنه مكان ولادة طائر الرُخ، وما تفسر لنا هذا الإحالة هي الجملة التالية، بأن هذا الحوار دار وسط النار، وهذه هي الهيئة التي يظهر بها هذا الطائر الأسطوري.
الدلالة الثانية المضمرة: إن أسطورة طائر الرُخ (العنقاء)، التي وردت في كتاب «ألف ليلة وليلة» والتي كانت بغداد مسرحا لهذا الكتاب الرائع، وبغداد أيضا هي مدينة الشاعر، التي يعيش فيها حياة بوهيمية متشردا، وفي هذا الكتاب الرائع أيضا تلك القصة الجميلة عن البساط السحري، الذي ينقل علاء الدين بطل إحدى قصصه، وقد قام الشاعر بتوظيف هذه الثيمة البساط السحري في القصيدة من خلال قوله (وركبت البساط إلى إستنبول) في المقطع الثالث، والتي توحي للقارئ بأن ما جاء في هذا النص قد يكون نسجا على طريقة ألف ليلة وليلة، ليصحو البطل ويعتلي بساطه عائدا، وقد يكون هذا النص جاء جزء منه واقعيا من خلال لقاء الشاعر بفتاة عبر شرفة ما، ثُم أكمل النص من خلال توظيف تراث ألف ليلة وليلة، وهو أسلوب يلجأ إليه الشعراء دائما، أي استلهام التراث، وسوف أترك النهاية مفتوحة لأشرك القارئ في استنتاج ما يراه ويفهمه هو، من خلال هذا النص ومن خلال هذه الدراسة.
ناقد وشاعر عراقي