ثقافة وفنون

رواية «نَفَسُ الله»: مرآة الذات المغربية في زمن التحول

رواية «نَفَسُ الله»: مرآة الذات المغربية في زمن التحول

حسن لمين

تُمثّل رواية «نَفَسُ الله» العمل الروائي الثاني لعبد السلام بوطيب، وتأتي إضافة نوعية تؤكد انخراطه في مشروع سردي يتقاطع فيه الأدبي بالحقوقي، والشخصي بالجماعي، والوجودي بالتاريخي. إنها ليست مجرد سرد حكائي تقليدي، بل تُشكّل تجربة سردية ذات طابع تأملي عميق، تستدعي أسئلة الذاكرة والهوية والعدالة في سياقات متغيرة. الرواية، الصادرة عن منشورات النورس، تكشف عن وعي جمالي وفكري ينسج تفاصيل عالم متوتر، تتصارع فيه الذات مع ماضيها، وتتلمّس الحاضر في خضم تحولات سياسية واجتماعية كبرى.
يرتكز البناء السردي للرواية على شخصية «أحمد»، الذي يجد نفسه بعد حادث غامض في مواجهة مباشرة مع ماضٍ مضطرب، ينتمي إلى مرحلة عصيبة من تاريخ المغرب السياسي والاجتماعي. يعاني أحمد من فقدان الذاكرة، لكن هذا الفقد لا يُقدَّم في الرواية كمعطى فسيولوجي فحسب، بل يُوظّف كآلية سردية تسهم في تفكيك العلاقات المعقدة بين الفرد وماضيه، وبين الذات والسلطة، وبين الذاكرة والعدالة. يتخذ الصراع على استرجاع الذاكرة طابعا دراميا مؤثثا بأسئلة وجودية شائكة، تتقاطع فيها الحكاية الفردية مع السردية الوطنية.
في قلب هذا الصراع، تقف زوجة أحمد بوصفها شخصية تحمل تناقضاتها الخاصة؛ فهي طبيبة نفسية سعت إلى بناء حياتها على نسيان ماضٍ مؤلم، لكنها تجد نفسها أمام تحدّ وجودي يتمثل في احتمال استرجاع زوجها لذاكرته، بما يحمله ذلك من خطر تقويض كل ما بنته. من جهة أخرى، يظهر «جلجل» كشخصية تجمع بين الوفاء الرمزي للقيم والموروث، وجراح التشظي والانكسار، ما يجعله يمثل أحد الأوجه المعقدة لذاكرة جمعية ممزقة بين الحنين والخوف. يتجلّى الطابع التأملي للرواية من خلال تعددية الأصوات السردية، وتناوب الضمائر (المتكلم، الغائب والمخاطب)، ما يمنح النص ديناميكية سردية تنفتح على مستويات متعددة من التلقي والتأويل. كما أن استدعاء زمن الجائحة (كوفيد -19) يوفر خلفية درامية عالمية تُسائل هشاشة الكائن البشري، وتُضفي على الحكاية بعدا كونيا.
لا ينحصر اشتغال بوطيب على البعد الفردي للأحداث، بل يتجاوزه إلى مساءلة أعمق لثيمات مرتبطة بالعدالة الانتقالية، والذاكرة الجماعية، وتوترات الانتقال الديمقراطي. فالرواية تُقدّم نموذجا فنيا لمقاربة اللحظات الحرجة في تاريخ الأمم، وتفكك الخطاب السائد حول المصالحة والإنصاف، عبر شخصيات تحاكي نماذج اجتماعية معاصرة، ترزح تحت ثقل الأسئلة المؤجلة والمسكوت عنها. يُبرز الكاتب، من خلال شخصية أحمد، التحول من موقع الضحية إلى فاعل في مسار العدالة الانتقالية، بينما تتخذ الزوجة، في مسار موازٍ، قرارا بتغيير اسمها من «لويزا» إلى «أنخيلا»، فيما يشبه انزياحا عن الجذور نحو هوية هجينة، تعكس محاولات الفرد للتكيف مع واقع متحول. هذه التبدلات في الهوية تُعبر عن قلق وجودي عميق، وتُجسد في الآن ذاته تشظي الذات المغربية في ظل تحولات سوسيوثقافية وسياسية متسارعة.
«نَفَسُ الله» ليست فقط عملا روائيا، بل تجربة فكرية تلامس جوهر الكينونة المغربية في علاقتها مع التاريخ والذاكرة والنسيان والغفران. فهي رواية تسعى إلى استكناه ملامح التحول في المجتمع المغربي، من خلال شخصيات مركبة، وأحداث تنزاح عن الطابع الخطي، ولغة سردية آسرة تنسج عوالمها بتأنٍ وعمق. وبذلك، ينجح عبد السلام بوطيب في تقديم نص يزاوج بين الحس الجمالي والهم الحقوقي، بين التجربة السردية والانشغال بالمصير الإنساني.
بوطيب عبد السلام «نَفَسُ الله»ـ الدار البيضاء: منشورات النورس 2025
كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب