ثقافة وفنون

خطاب القصص القرآني

خطاب القصص القرآني

سعيد يقطين

ننتقل في حديثنا عن خطاب القصص القرآني، من القصة الإطار الكامنة في قصة الخلق إلى قصص الأنبياء، وغيرها من الأنواع السردية التي يتضمنها الخطاب القرآني. وإذا كانت قصة الخطاب القرآني خطية أفقيا، لأنها تمتد من بداية الخلق إلى الخلود، نجد قصص الأنبياء محددة في بنية زمنية خاصة بحياة النبي، أو الرسول، وبعثته إلى قومه. وتبدو لنا العلاقة قائمة بين قصة الخلق وقصص الأنبياء، من خلال تحقق الدعوى النصية المركزية التي سجلناها في قصة الخلق، حيث انقسام الناس إلى مؤمن يتبع أوامر الله، وكافر يخضع لإغواء الشيطان، مع فارق أساسي، وهو أن نفاذ الدعوى يتحقق في زمن النبوة (الحياة الدنيا) أولا، وبعد البعث في نهاية قصة الخطاب القرآني.
فلماذا وظف القرآن الكريم قصص الأنبياء ما دام نفاذ الدعوى المركزية يتم بعد البعث؟ للسرد القرآني، خاصة قصص الأنبياء طبائع وظائف متعددة. وفي إطار تأكيد العلاقة بين خطاب القصص القرآني، وقصة الخطاب القرآنية نؤكد أن الله خلق للإنسان كل مقومات الحياة والملكات التي تؤهله للتمييز بين الأشياء والحكم عليها، واختيار ما يلائمه لتحقيق سعادته أو شقائه، لكن صراعه مع عدوه (الشيطان) الذي أقسم على إغواء بني آدم، كما فعل بآدم وحواء، وهما في الجنة غير متكافئ. فللشيطان أساليب وأحابيل يستطيع من خلالها تحريف الإنسان عن فطرته، وعن التصرف وفق ما يمليه عليه عقله أو حدسه، أو حواسه لاعتبارات كثيرة تتصل بحياته مع الآخرين من بني جلدته، وسعيه وراء تحقيق مصلحته. لذلك بعث الله الأنبياء والرسل للتحذير والتذكير والتوجيه، وكانت لكل منهم رسالة تدعو إلى عبادة الله، والتحرر مما يمكن أن يدعو إليه الشيطان، ويزينه للناس وفاء بوعده في التضليل وإبعاد المرء عن اتباع أوامر الله.
يتمثل هذا الدور الذي لعبه النبي، أو الرسول في التصدي لما يدعو إليه الشيطان وهو يعمل على صرف الإنسان عما أمره الله به، ولما كان البشر جميعا في زمن النهاية (الخلود) ينقسمون إلى أشقياء (النار) وسعداء (الجنة)، قضى الأمر الإلهي ببعث الأنبياء والرسل إلى كل الناس حيثما وجدوا مصداقا لقوله تعالى: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» (الإسراء، 15)، من جهة.. ومن جهة أخرى لا نجد خطاب قصص الأنبياء في القرآن الكريم يغطي كل من بعثه الله إلى قومه، «ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، منهم من قصصنا عليك، ومنهم من لم نقصص عليك. وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله» (غافر 78). وفي يوم القيامة وقد تم تصنيف الناس إلى قسمين يسأل خزنة جهنم الكفار: «وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا. حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: بلى، ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين» (الزمر، 71). ومن خلال قصص الأنبياء المسرودة، أو غير المسرودة نتبين أنها ذات رسالة واحدة، وأن طبيعتها ووظيفها موحدة.
نستخلص مما أوردناه حول خطاب القصص القرآني، أن الخطاب واحد، لكن القصة (المادة الحكائية) مختلفة، حسب النبي أو الرسول وعلاقته بقومه. لذلك نجد قصص الخطاب القرآني مفردة في صيغة جمع. فهي ذات بنية سردية واحدة موحدة، وهي بذلك أيضا متعددة بتعدد حيوات الأمم والشعوب في صيرورتها، إذ لكل قوم خصائص وعادات، وأنماط حياة مختلفة. وهذا التنوع والتعدد في أشكال الحياة ما يزال مستمرا إلى اليوم لأنه متصل اتصالا وثيقا بتجربة الحياة البشرية في كل زمان ومكان، ومتصل أيضا بالشرط الإنساني عينه، فهو موحد أيضا في تنوعه وتعدده. ويدفعنا ذلك إلى استنتاج أن السرد القرآني تعبير عن تجربة الحياة الإنسانية في مختلف صورها وأشكالها، وما تنويع قصص بعض الأنبياء وتقديمها، مرات متعددة خطابيا إما خلال بنيات، أو وحدات، أو مقاطع تتخلل مختلف سور القرآن الكريم، سوى تأكيد على أهمية الوقوف في كل مرة، ومن خلال أي قراءة للقرآن الكريم على تلك التجربة الحياتية، وهي تقدم بصيغة جديدة، ومختلفة عن تلك التي قدمت في سورة أخرى.
تتعدد مقاصد قصص الأنبياء، وأنواعها، وطرق صياغتها، وسياقاتها، لذلك يستدعي تحليل خطاب القصص القرآني اتباع ثلاثة مسالك متضافرة: قراءة أي قصة في ذاتها، من جهة، وفي مقارنتها بنظيراتها من جهة ثانية، وأخيرا بوضعها في نطاق زمن النص القرآني، أي في السياقات التي وردت فيها. وبهذه الكيفية يمكننا أن نحيط بكل ملامح السرد القرآني من خلال: القصة والخطاب والنص.
إن القصة القرآنية واحدة موحدة. لكنها في الوقت نفسه متعددة ومتنوعة. إنها واحدة على مستوى الخطاب الذي يقدمها. لكنها مختلفة على مستوى المادة الحكائية التي تتكون منها. ويمكننا ضرب مثال لذلك من سورة الشعراء التي تتقدم إلينا من خلالها بنيات أو وحدات من قصص سبعة أنبياء (من موسى إلى شعيب). وتتأطر السورة من خلال مخاطبة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بعدما عانى بشدة من تكذيب قريش له: «لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين» (الشعراء 3)، فكانت السورة تتصدر بتكذيب الأقوام المختلفين لأنبيائهم: «كذبت»، وتنتهي كل بنية أو وحدة بقوله تعالى: «وإن ربك لهو العزيز الرحيم»، ويتوسطها العذاب الذي لحق بهم. لا فرق في التجربة والوضع البشري. فالقصة واحدة، والخطاب متعدد.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب