
شعر ورقص ودموع في صفصافة

إبراهيم عبد المجيد
للعام السابع الآن تقيم دار صفصاقة لصاحبها محمد البعلي ملتقى عالميا يحضره عدد من كتاب العالم تحت عنوان «ملتقى القاهرة الأدبي». منذ أول دورة كنت مشجعا لهم أتدخل أحيانا عند وزارة الثقافة لتعطيهم مكانا يقيمون فيه المهرجان، ثم صاروا هم يستطيعون ذلك بالاتصال المباشر مع وزير الثقافة أحمد هنو، الذي لم يتأخر عن طلبهم هذا العام، وأقيم الملتقي في قبة الغوري في منطقة الحسين، وهي مما تركه السلطان المملوكي أشرف قنصوة الغوري، هي وغيرها يطول الحديث عنها.
كما أقيم حفل الختام في بيت الست وسيلة، أو بيت الشعر الذي يديره الشاعر سامح محجوب في منطقة الحسين نفسها ويشعله بالليالي الشعرية والنقدية الرائعة.
لم أستطع التأخر عن حضور حفل الافتتاح الذي تم في يوم السبت الثالث عشر من أبريل/نيسان الجاري، لكن منعتني ظروفي الصحية من استكمال الذهاب، إلا في اليوم الأخير الخميس. فاتني الكثير بلا شك فالنظر في البرنامج وأسماء المدعوين يؤكد لك روعة الحدث. لقد حضر هذا العام كتاب من العالم هم، الألمانية جيني أيربينبك الفائزة بالبوكر العالمية، والألماني وولفجانج مارتن روث صاحب كتاب «المرأة التي قالت لهتلر لا»، ومترجمة الكتاب إشراقة مصطفى من السودان، وأليكس فاروجيا وجون بورتيلي من مالطة، ومنيكة شيبر الهولندية صاحبة كتاب «الأرامل»، الذي كتبت عنه هنا والذي ترجمه عبد الرحيم يوسف، ونزار شقرون من تونس وإسماعيل بيرير من الجزائر. من مصر أسماء مهمة بين شعراء وكتاب قصة ورواية ونقاد مثل خالد الخميسي وصلاح هلال وحسام جايل وسمير الفيل وتقى حسام وعبد الله أحمد وإياد الأسواني وتغريد الصبان وسمية عبد الوهاب وياسر ثابت ومحمد بركة وياسر عبد الله وهناء المتولي ومحمد سمير ندا ورشا الفوال وسارة حواس ومحمد الكفراوي ومحمد حسني عليوة ومحمد الكاشف وحنان شافعي وأحمد حسن.
كنت أعرف أن افتتاح الملتقى ستسبقه ساعة تقريبا مع «فرقة التنورة» التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة. حضرت وإذا بي أمام العزف بالطبلة والطار والصاجات والغناء في مدح النبي الكريم محمد بن عبد الله وأبنائه وأحفاده مثل السيدة فاطمة والحسن والحسين، وأمام المغني ذي الصوت الشجي ترقص الفرقة رقصة التنورة التي فيها يستديرون ويدورون في مراكزهم التي يقفون فيها بسرعة مع الصاجات والطبل، ويرتدون زيهم الشهير، لتحقق الرقصة ما أعرفه وأشعر به دائما وهو الفناء في السماء. الرقصة طقس صوفي وليست رقصة للمتعة فقط. حين جلست كانت زوجتي على يساري والصدفة جاءت بالإعلامية القديرة صديقة أجمل أيام العمر بثينة كامل على يميني. أخذني رقص الفرقة وغناؤها إلى السماء، كما كانت تأخذني المساجد الأثرية حين كنت أزورها. لم أستطع أن أمنع دموعي، وحاولت أن أقطع هذه المشاعر بالحديث مع بثينة كامل التي أدهشتها دموعي، فحكيت لها حكايتي مع أولياء الله منذ الطفولة في الإسكندرية. كانت الصدفة أني أرسلت في صباح اليوم نفسه مقالي عن» أدبيات الكرامة الصوفية» لمحمد أبو الفضل بدران إلى هنا، وهو المقال الذي تم نشره الأسبوع الماضي، وكان قد أخذني بدوره إلى هذه المشاعر. حاولت أن ابتسم وأنا اقول لها كيف في زياراتي لمساجد مختلفة في مصر ودول عربية مع وفود من الأدباء، كان يحدث لي ذلك ويثير دهشة من معي، فكيف لكاتب يساري كما كنت يوما أن يصدق ما يراه، وكنت أعلق عليهم برجاء عدم الحديث في الأمر فالإيمان شيء والعقل شيء آخر.
حدث معي هذا في مساجد مثل مسجد الحسين في كربلاء، أو سيدنا يونس في الموصل حين كنت أزور العراق قبل التسعينيات، أو مسجد عمار بن ياسر في سوريا حين كانت آخر زيارتي لها قبل الربيع العربي. تماسكت كما أتماسك الآن وأتحدث عن هذا الجهد الرائع لدار صفصافة وصاحبها محمد البعلي. نبهتني العزيزة بثينة كامل عن الألوان السبعة لملابس أعضاء الفرقة التي هي مستوحاة من صفو الفضاء وتجليات الروح، فذكرتها بفيلم «ألوان السماء السبعة» الذي كتبته زينب عزيز وأخرجه سعد هنداوي عام 2007، وكان من بطولة فاروق الفيشاوي، رحمه الله، وليلى علوي التي تستحق أفلامها حديثا طويلا. ليلى علوي التي أحببتها منذ رأيتها على المسرح في أول ظهور لها في مسرحية «بكالوريوس في حكم الشعوب» عام 1978 لعلي سالم رحمه الله. المسرحية الساخرة من الحكم العسكري أو حكم الفرد حين كانت مساحة الكتابة متسعة. المساحة التي ظلت كذلك لسنوات طويلة حتى صرنا إلى ما نحن فيه من تضييق على الأفكار في السينما أو المسرح. أتذكر أني كتبت مقالا عن تلك المسرحية وقتها لا أذكر أين نشرته للأسف. أتمنى أن تمنحني الظروف الفرصة أن أتحدث عن أفلام رائعة لليلي علوي، فلا أنسى سهر الليالي مع أفلام لها مثل «الأقزام قادمون» أو «المصير» أو «أضحك الصورة تطلع حلوة» أو «كل هذا الحب» أو «ليلة البيبي دول» أو «المغتصبون» أو «تفاحة» أو «آي آي» أو «سمع هس» أو «باحب السيما» وغيرها وطبعا «ألوان السما السبعة». لقد تعاونت ليلى علوي مع مخرجين لهم بصمتهم في السينما مثل، يوسف شاهين وسعيد مرزوق وشريف عرفة وعمر عبد العزيز ورأفت الميهي وعاطف الطيب وأسامة فوزي ومجدي أحمد علي وغيرهم من المجددين في شكل وموضوع الأفلام.
أهمية هذا الجهد لدار صفصافة عبر هذه السنوات هو أنه من جهد المجتمع الأهلي بعيدا عن جهد الدولة. المجتمع الأهلي أو المدني، إذا شئت باعتبار أن الحكم منذ 1952 هو حكم عسكري. كنت طفلا لم يدخل المدرسة بعد، لكن قراءاتي بعد ذلك جعلتني أعرف أن كل المجلات كان يصدرها كتاب أو جماعات، وكل المدارس كان يبنيها كبار رجال المال أو الأعمال ويتبرعون بها لوزارة المعارف، تماما كما حدث في النهضة الصناعية منذ طلعت حرب، وهو أمر كثيرا ما تحدثت فيه. ليس لدينا في الثقافة من جهد للمجتمع المدني غير جائزة ساويرس التي أسسها المهندس سميح ساويرس، واتسعت لتشمل فروعا كثيرة في الأدب والفنون، وهذا الجهد لدار صفصافة. هذا الجهد الرائع، رغم مساهمة وزارة الثقافة، وهي مساهمة مشكورة بلا شك، يجعلني أتساءل عن توقف مؤتمر مثل مؤتمر الرواية أو مؤتمر الشعر العربي بسبب قلة الميزانية وهو المؤتمرالذي كان يقيمه المجلس الأعلى للثقافة، ويدعو كتابا من كل الدنيا، وأعيد سؤالي لماذا لا تستفيد وزارة الثقافة من جهد المجتمع المدني وتسعى إلى رجال أعمال لن يتأخروا عن المساهمة في عودة هذين المؤتمرين، ولن يطلبوا أكثر من تعليق لافتات بإسهامهم أو ككفيلين للمؤتمر.
أعود إلى تلك الليلة الأولى، ليلة افتتاح المؤتمر، وكيف جلست بعد الافتتاح مع عدد من الكتاب نتحدث عن أحوال الثقافة. كنت أتحدث معهم وما زلت أشعر بالشجن الذي تملكني وأنا أسمع وأرى فرقة التنورة، وكيف في لحظة تخيلت نفسي أنهض مسرعا قويا متخليا عن العكاز الذي استند إليه، وأرقص معهم وأدور حول نفسي ثم ارتفع إلى السماء بين دهشة الجميع. في الليلة الأخيرة كنت ابتعدت عن تلك المشاعر وجمعتني بالكتاب الوافدين سهرة كانت رائعة، رغم ما سبقها من شجن عاد لي وأنا استمع للشعراء في حفل الختام. استمعنا إلى قصائد رائعة تؤكد ما أقوله دائما أن مقولة زمن الرواية لا تعني انقضاء الشعر. فالشعر هدف الروائي الحقيقي في بناء روايته الفني، من تعدد لغاتها بتعدد شخصياتها، وحضور المكان والزمان وأثرهما أيضا في بناء العبارات والجمل. في النهاية الشكر والتقدير لدار صفصافة التي ترجمت أيضا أعمالا مهمة لمن دعتهم من الكتاب الأوروبيين نشرتها قبل الملتقى، فأتاحت الظروف لمن يريد لمعرفتهم، وهذا يحدث في كل عام ومع كل ملتقى.
كاتب مصري