عناوين في دفتر الحرب الكارثية
محمد الأمين أبوزيد
منذ اندلاع الحرب الكارثية بين القوات المسلحة والدعم السريع في 15 أبريل 2023 ما يزال الغموض المعلوماتي وصناعة الخبر وفبركة الصورة والنفي والنفي المضاد، الاتهام والاتهام المضاد هو سيد الموقف، لايدري أحد ما حقيقة الموقف الفعلي وحجم الخسائر المادية والبشرية حتى هذه اللحظة من جهة محايدة..
نحاول في هذا المقال طرح عناوين واستفهامات للإجابة عليها قدر المستطاع.
خلفية سياسية مهمة:
منذ انتصار ثورة ديسمبر المجيدة في أبريل 2019 والتي اتخذت جماهيرها من مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة وجهة لحماية انتصارها، ورمز لاعتصامها كان الأمل يحدوها في أن يستبين قادة الجيش وضباطه الشرفاء مطالبها وينحازون إليها ظناََ منهم أن الجيش جيش الشعب، ولكن للأسف كانت الحقيقة خلاف التطلع والطموح إذ انحنت قيادة الجيش للعاصفة لكنها لم تكن مؤمنة بحتمية التغيير وقد حاولت اختطاف المشهد من خلال تكوين المجلس العسكري الذي رفضته الجماهير المنتفضة، والتفت على المشهد باقتراح التفاوض مع الحرية والتغيير وإيجاد موضع قدم لها في السلطة الانتقالية بادعاء الانحياز وعزل البشير الذي كان أمراََ واقع لامحالة، هذا السيناريو ينطبق على قوات الدعم السريع كرديف للقوات المسلحة صنعه النظام السابق وأصر قادة الجيش على اصطحابها كشريك في المشهد للاستقواء وممارسة الضغوط على القوى السياسية.
كانت جريمة فض الاعتصام عنواناََ بارزاََ على تربص المكون العسكري بشقيه جيش/دعم الثورة والالتفاف عليها، إلى أن قلبت الجماهير الطاولة عليها في 2019/6/30 م الذي أعاد زمام المبادرة إلى القوى الثورية وحفظ التوازن السياسي وتماسك الشارع.
تلك اللحظة كانت تاريخية ومفتاحية لإنتصار الثورة أضاعتها القوى السياسية بالتردد والضعف وعدم القدرة على الإمساك باللحظة التاريخية والقبول بشراكة عرجاء مع رموز النظام في المكون العسكري، تحت دعاوي حقن الدم وتفادي خسائر الأرواح الذي استطال إلى أن وصل مانحن فيه الآن..
معركة مؤجلة:
لم تتوقف محاولات العسكر في تسيد الموقف واختطاف الثورة إذ عملوا على تسميم وعرقلة الفترة الانتقالية، وإضعاف وتقسيم قوي الثورة بالاستمالة واختطاف الملفات والهيمنة وبناء التحالفات الخارجية وصولاََ لتنفيذ انقلابهم في 2021/10/25م حين دنت لحظة الانتقال للمكون المدني في مجلس السيادة.
عندما فشل الانقلاب في تحقيق مقاصده القريبة والبعيدة وأحدث أزمة عميقة سياسية واقتصادية وعزلة دولية، وأكبر من ذلك بروز التناقض والتنافس بين شقى المكون العسكري جيش/دعم كانت المؤشرات تقول باستحالة التعايش والتنسيق في التآمر، وعجل بذلك الاتفاق الا
إطاري في ديسمبر 2022م وما أحدثه من استقطاب سياسي وشق صفوف القوى الثورية.
إن المعركة التي أخطأت قوى الحرية والتغيير في التعامل معها في 2019م هاهي تطل برأسها في 2023م ضمن ميزان سياسي وعسكري مختلف نوعياََ.
حقيقة الصراع ومقاصده:
لايختلف إثنان في أن الصراع بين الجيش والدعم السريع هو صراع حول الاستحواذ والانفراد بالسلطة والثروة والسيطرة على موارد البلاد، ولا علاقة له البتة بأهداف الثورة والتغيير مطلقاََ مهما علت الادعاءات والمزايدات بين طرفيه، إذ من المعلوم بالضرورة أن الدعم السريع هو صنيعة النظام المباد الذي استهدف به إنهاء التمرد في دارفور ولاحقاََ حماية النظام من التحركات الشعبية عندما أتى به للعاصمة وشرع له القانون تحت سمع وبصر ورعاية القوات المسلحة التي لم ينطق لسان قادتها الحاليين بأي
اعتراض على وضع مختل عسكرياََ وقنبلة موقوتة قابلة للانفجار بحكم طبيعة المليشيا.
إن قيادة الجيش الحالية والنظام السابق هما المسؤولان عن تمكين الدعم السريع في العاصمة وتوسيع وتمدد قواته، وتسميته بالإبن الشرعي للجيش وتثمين دوره والغزل مع قيادته ، ورفده بكل الممكنات المادية واللوجستية لاستمالة موقفه، وعندما حدث التناقض والرغبة في السيطرة انفجرت الأزمة التي كان عنوانها البارز الدمج والإصلاح ، وعنوانها الخفي اجتثاث أي فرصة للتغيير.
هل تمرد الدعم السريع؟
لم يخفى قائد الجيش وفي أي مناسبة اعتزازه بالدعم السريع ودوره، بل فتح لقادته القيادة العامة على مصراعيها التي استعصمت بواباتها عن حماية الشباب/ات المعتصمين في ليلة الغدر والخيانة.
إن الاستقلالية العسكرية التي يتمتع بها الدعم السريع تمت بموافقة قادة الجيش عندما كانوا ضامنين لمواقف الجنرال حميدتى، ولكن عندما بدأت المواقف تتباعد وتتباين وتتناقض وتتعقد فرص الحلول أصبح الابن الشرعي متمرداََ ومليشيا!!!!
إن ما اثير حول حادثة مروى(سراييفو السودان) ليس سوي إثارة غبار لمعركة ظلت كامنة تحت الرماد.. حيث أكدت تطورات الأحداث أنها استدراج مقصود للدعم السريع من قوى وأيادي خفية داخل الجيش تعمل لصالح عودة النظام السابق، التي فجرت بارود المعركة مستبقة فرصة لحل الأزمة تم الاتفاق عليها وتوقيتها لحظة انفجار الحرب الكارثة لقطع الطريق نحو حل سلمي لنزع فتيل المواجهة.
لقد ساق قائد الجيش المبررات عندما كان الشعب يطالب بدمج الدعم السريع والحركات المسلحة بأن الدعم السريع يعمل تحت إمرة القوات المسلحة، والتنسيق معها بينما كانت الحقيقة المرة غير. هل بعد كل ذلك يمكن أن تمر فرية تمرد وعدم طاعة الأوامر كمبرر للانفجار الكبير؟؟
الفاعل الحقيقي والضمير المستتر:
من الثابت قولاََ وفعلاََ ومعرفةََ أن الحركة الإسلامية كتنظيم عقائدي حكم البلاد لثلاثين عاماََ سيطر فيها على مفاصل الدولة سياسيا واقتصاديا وعسكريا بالتمكين، ليس من المتخيل تخليه ببساطة عن نزغ الحكم ولكن كانت الاستراتيجية هي الانحناء للعاصفة والعمل تحت ستار المكون العسكري جيش/دعم من خلال الاختراق الكبير لممارسة تكتيكات العودة بادعاء الانحياز للثورة والتغيير ومن ثم الانقضاض التدريجي، ولا يحتاج هذا التحليل لاجتهاد إذ اثبتت المواقف أن الحركة الإسلامية ظلت داعمة لكل مواقف المكون العسكري ولم تستطع حتى إدانة تطبيعه مع الكيان الصهيوني!!؟
عندما إحتدم الصراع بين الجيش والدعم السريع، وأصبح التوافق مستحيلاََ قررت الحركة الإسلامية عبر عناصرها داخل الجيش والدعم السريع تفجير الأحداث، ووضع الجيش أمام الأمر الواقع، وهذا أيضا لا يحتاج عناء الاثبات حيث تأكد بأن ضباط عظام في القيادة العسكرية ليسوا على علم بالحرب بل سقطوا اسرى لدى قوات الدعم السريع!!
بل ولأول مرة يدخل الجيش حرب دون إعلان الاستعداد الكامل، ودون علم الجزء الأعظم من قاعدته.
لقد بات ومنذ فترة بعيدة عدم رغبة البرهان في تفكيك تنظيمات الحركة الإسلامية العسكرية دفاع شعبي/كتائب ظل/مجاهدين/وعمليات الجهاز وغيرها.. والتي اكدت الأحداث مشاركتها الحالية.
كل المؤشرات كانت تقول بأن قيادة الجيش تعمل جاهدة لعودة الإسلاميين تحت لافتات وعناوين مختلفة منذ انقلاب 25اكتوبر2021، وما حدث في 15 ابريل 2023 هو انقلاب داخل الانقلاب لأبعاد الدعم السريع، وتكتيك انتحاري سيكتب له الفشل لامحالة..
المؤكد والذي وضح بالدليل العملي وبعد خطاب احمد هرون هو ضلوع الحركة الإسلامية في مخطط الحرب الكارثية.
المزايدة بدعم الجيش لماذا؟
امعاناََ في خلط الأوراق والتزييف ظلت الحركة الإسلامية تلعب على تكتيك دعم القوات المسلحة في مواجهة الدعم السريع وهي كلمة حق أريد بها باطل، هذا التكتيك يمكن أن يكون مقبولاََ من أي جهة إلا الحركة الإسلامية التي خلقت التنظيمات العسكرية لإضعاف دور الجيش وشردت قياداته الشريفة بالفصل والتصفية والإعدامات، ولكن الحركة الإسلامية عرفت دوماََ بإبتدار حملات دعم الجيش تنفيذاََ لعمل سياسي تنوي القيام به باستخدام المؤسسة العسكرية مثلما حدث إبان الديمقراطية الثالثة فيما عرف بمواكب أمان السودان، لإفشال اتفاقية السلام (الميرغني – قرنق) وصولاََ لتنفيذ انقلاب يونيو 89.
الحسابات الخاطئة والحسم المتوهم :
لقد بنيت حسابات المعركة بأنها ستكون خاطفة وسريعة استناداََ على قدرة الجيش القتالية من ناحية، ودخول كتائب النظام في معركة حرب الشوارع من ناحية أخرى، ولكن اثبتت الأحداث أن الحسابات في الحقل ليست كماهي في البيدر وهاهي الحرب تتمدد وتتناسل دون معرفة حدود نهاياتها.!! في ظل تعدد مراكز اتخاذ القرار البائنة للعيان في موقف الجيش.
كيف تنتهي الحرب وماهي المآلات المحتملة؟
من السهل أن تبدأ الحرب بإطلاق الرصاص ولكن من الصعب أن تتوقف، لاسيما في ظل تداخل خنادق ومصالح متناقضة لأطرافها وعدم القدرة والسيطرة والإمساك بزمام الأمور وعدم تماسك الموقف السياسي، مثلما هو حادث الآن في ظل التصريحات المتباينة لأطرافها من قبل معسكر الجيش ما بين داعم للتفاوض والحوار ورافض!!
إن الحرب الكارثية التي تدور الآن ستضع البلاد أمام أحد خيارين، أما أن تضع حداََ حاسماََ لتدخل المؤسسة العسكرية في الصراع السياسي الذي شكل مدخل ورافعة الأزمة السياسية في البلاد، وأما تصبح مدخلاََ لحرب أهلية تؤدي لتفكيك البلاد ووحدة ترابها ونسيجها الاجتماعي في ظل وجود حركات عسكرية ترفع شعار الانفصال وتقرير المصير.
كيف تتعامل القوات المسلحة مع الحركات المسلحة
إذا نجحت القوات المسلحة في حسم المعركة عسكرياََ مع الدعم السريع سيظل السؤال الكبير هل سيكون هذا الخيار مطروحاََ للتعامل مع حركات سلام جوبا؟ وهل سيكون مطروحاََ للتعامل مع حركة الحلو وعبدالواحد؟ إنه المستقبل المظلم المآلات الحرب العبثية الخاسرة كما وصفها قائد الجيش نفسه.
إن الموقف الوطني الصحيح هو رفض الحرب وإدانة أطرافها وكشف المتسترين بها وأهدافهم، ودعم الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة الانتقال الديمقراطي وتوسيع قاعدتها للضغط على طرفي النزاع، لإيقاف الدمار والالتزام بالعمل على وحدة التراب الوطني، وخروج طرفيها كلياََ من المشهد السياسي، والعمل بجدية في دمج كافة الحركات المسلحة وتحولها إلى حركات سياسية مدنية وتأسيس جيش مهني موحد ملتزم بالدستور وحماية السيادة الوطنية والنظام الديمقراطي.