ذاكرتنا الوطنية أقوى من ترهيبكم…

ذاكرتنا الوطنية أقوى من ترهيبكم…
“محمد صبح”
رأينا الأجيال الجديدة – من أطفال وشباب – يسيرون على درب الأجداد، يرفعون صورهم، ويحملون مفاتيح البيوت، ويرددون الرواية التي ورثوها بصدق وإيمان…
ذاكرتنا ليست حدثًا عابرًا يُمكن منعه بقرار، ولا شعارًا يُمكن مصادرته أو تقييده. إنها نبض تاريخنا، وعمق انتمائنا، وجذور حقّنا الذي لا يسقط ولا يُنسى، ومفتاح عودتنا الذي لن يُكسر.
مرةً تلو الأخرى، تحاول المؤسسة الإسرائيلية إخضاع الوعي الفلسطيني في الداخل، باعتقادٍ ساذج أن الترهيب والملاحقة قادران على تدجينه أو محوه. لكنهم يخطئون في كل مرة، لأنهم ببساطة لا يدركون أن هذا الوعي لا يُصاغ بقرار، بل يتغذّى من تجربة شعبٍ عصيّ على الكسر.
آخر تجليات هذه السياسات القمعية تمثّلت في القيود التي فرضت على مسيرة العودة لهذا العام، والتي أفضت في النهاية إلى إلغائها، رغم كل الجهود التي بذلتها لجنة المهجرين لتنظيمها في قرية كفر سبت المهجّرة.
قرار الإلغاء لم يكن حدثًا معزولًا، بل هو حلقة ضمن سلسلة طويلة بدأت منذ هبّة الكرامة عام 2021، وتصاعدت بشكل خطير بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. في هذا السياق، تحوّلت حرية التعبير إلى تهمة، والموقف السياسي إلى ملف أمني. اعتقالات بالجملة طالت مئات الناشطين، من بينهم طلاب جامعيون وقاصرون، فقط لأنهم رفعوا العلم الفلسطيني أو نادوا بوقف المجازر في غزة.
التضييق لم يتوقف عند الاعتقال. لقد حُظرت شعارات كانت دومًا عنوانًا لنضالنا، وجُرّمت الرواية الوطنية ذاتها. أما مسيرة العودة، فحاولوا اختزالها إلى مجرّد طقس بلا مضمون، بشروط أمنية تُفرغها من رسالتها السياسية، وتفتح الباب أمام اقتحامها والاعتداء على المشاركين فيها.
لكن، كما في كل مرة، جاء الرد الشعبي أبلغ من كل محاولات القمع. العائلات الفلسطينية، من مختلف القرى المهجّرة، لم تنتظر إذنًا لتُحيي ذكرى النكبة. نظّمت زيارات ومسيرات إلى قراها الأصلية، استعادت الأماكن والذاكرة، وأكدت أن حق العودة لا يُختزل في فعالية سنوية، بل هو ممارسة دائمة ووفاء لا ينكسر.
رأينا الأجيال الجديدة – من أطفال وشباب – يسيرون على درب الأجداد، يرفعون صورهم، ويحملون مفاتيح البيوت، ويرددون الرواية التي ورثوها بصدق وإيمان. هؤلاء الذين وُلدوا في واقع يسعى إلى أسرلتهم، يثبتون في كل خطوة أنهم أكثر التصاقًا بهويتهم، وأكثر وعيًا بثوابتنا الوطنية.
مشاركتهم ليست مجرد حضور رمزي، بل تعبير صادق عن التمسك بالحق، وتجديد للعهد مع الأرض والذاكرة. إنهم يعرفون أن هذا الحق لا يسقط بالتقادم، وأنه لا يُقهر بقانون، ولا يُنسى بملاحقة.
مرة أخرى، فشلت المؤسسة الإسرائيلية في كسر إرادتنا. وأثبت أبناء شعبنا أن القمع لا يُضعف الذاكرة، بل يُقوّيها. وكما كانت مسيرة العودة منذ انطلاقتها عام 1998 فعلًا مقاومًا، فإن زيارات هذا العام جاءت ردًّا مباشرًا على مشاريع التخويف والإلغاء، وكَسرت منطق المنع بالقوة الشعبية والإيمان العميق.
ذاكرتنا ليست حدثًا عابرًا يُمكن منعه بقرار، ولا شعارًا يُمكن مصادرته أو تقييده. إنها نبض تاريخنا، وعمق انتمائنا، وجذور حقّنا الذي لا يسقط ولا يُنسى، ومفتاح عودتنا الذي لن يُكسر.
ولهذا، فإن مسؤوليتنا السياسية والأخلاقية تزداد إلحاحًا: أن نوسّع دائرة الفعل الشعبي، وأن نحمي فضاءاتنا الوطنية من المصادرة، وأن نُحصّن أجيالنا القادمة بالوعي والرواية والارتباط بالمكان. فكل زيارة، وكل ذكرى، وكل موقف حرّ، هو لبنة إضافية في جدار الصمود، وخطوة نحو العودة التي نراها حقًا وواجبًا لا خيارًا.