مقالات

هويتنا الوطنية ليست من الكماليات

هويتنا الوطنية ليست من الكماليات

عز الدين بدران

الوطنية ليست موضة، وليست موجة مؤقتة، بل هي جذور، وكلما تعمّقنا بها، استطعنا أن نواجه الرياح بأقدام ثابتة، وأرواح عالية…

هويتي الوطنية ليست شعارًا أرفعه عند الحاجة، ولا مجرد حنين لذكرى، أو مجرد إحياء مناسبة، إنها بوصلة الروح، وميزان الضمير، ومرآتي في مواجهة نفسي. ارتبطت هويتي بمحاولتي الدائمة أن أكون عنصرًا نافعًا لأهلي، وناسي، وشعبي، وأمتي. لا أدّعي أنني كنت دائمًا على قدر هذه التوقعات أو حتى النية، ولا أنني نجحت في كل مرة، لكن عزائي أنني لم أتوقف يومًا عن المحاولة، وأنني في كل مرة أتعثر، أعود لأقف من جديد بدافع وطني، لا رغبةً في تمجيد الذات، بل شعورًا بواجب متجذر في الوعي واللاوعي.

الوطنية بالنسبة لي ليست مفردة شاعرية، وليست شعارات تُرفع في المناسبات، بل هي حصن داخلي، وصمام أمان لي كإنسان، ضد التفتت والتشظي والتفرقة، وضد الاغتراب عن الذات والمجتمع. الوطنية هي أن أكون مستقيمًا، مفيدًا، صالحًا، متفانيًا، مُقدِّمًا الهمّ العام على الخاص، لا لأنني أضحي، بل لأنني أحقق بذلك مصلحتي الذاتية في أرقى معانيها.

وأي محاولة لعزلنا عن هويتنا الوطنية، سواء عبر محاولات الطمس أو التشويه أو التضييق أو الترهيب، كما يحدث مؤخرًا من إلغاء مسيرة العودة بشروط تعجيزية فُرضت على المنظمين من عصابات شرطة بن غفير، ومن خلفها المؤسسة الإسرائيلية بأكملها، هي ليست مجرد قرار سياسي، بل هي امتداد لمحاولة بائسة لسلخنا عن ذاكرتنا وهويتنا الجمعية، وعن انتمائنا العميق لهذه الأرض، وهذا الحق، وروايتنا التاريخية الصادقة، وقضيتنا العادلة.

لم تكن يومًا مسيرة العودة مجرد حدث سنوي، بل فعلًا رمزيًا عميقًا يعيد إحياء الحكاية الفلسطينية من قلب القرى المهجّرة، من تلك الأماكن التي أرادوا لها أن تُمحى من الذاكرة، فإذا بها تتحول في كل عام إلى مسرح للكرامة والعناد، والتذكير لجميع الأجيال. أذكر جيدًا كيف كنا نُحيي المسيرة، نمشي بين حجارة البيوت المهدمة، بين أشجار الزيتون التي شهدت الهجرة القسرية، هناك حيث يختلط التراب بالحكاية، وتتشكل ملامح الانتماء من جديد. لا لرفع الأعلام فقط، بل لنقول للأرض: لم ننسَ، ولن ننسى، وسنذكر كل من سيأتي بعدنا. أتذكر دائمًا ملامح الأطفال المحمولين على أكتاف أهاليهم، الكوفيات والأعلام صغيرة الحجم التي يحملونها، لكنها تحمل أكبر المعاني والقضايا.

كانت المسيرة مدرسة للوعي؛ من يمشي فيها يشعر بوزن التاريخ، يسمع الأصوات الغائبة، يرى المدى المفتوح بين الحلم والواقع، يدرك أن العودة وإن كانت بعيدة سياسيًا، لكنها ممكنة وجدانيًا، ومحصنة أخلاقيًا. ولهذا، فإن منعها هو محاولة لضرب المعنويات، لتفريغ الأجيال من هذا الرابط العاطفي والوجداني العميق مع الأرض.

ولهذا، بات التمسك بالهوية الوطنية مسألة تحدٍّ، لا فقط في وجه إسرائيل، بل أولًا وأساسًا في وجه أنفسنا، في ظل حالة من التفكك الاجتماعي، وهيمنة العنف والجريمة داخل مجتمعنا. أصبح التمسك بالهوية الوطنية موقفًا وجوديًا، ومسيرة العودة – حتى وإن لم تكن أداةً كافية لتحقيق العودة المنشودة – فإن مجرد إحيائها، ولو على مستوى الوعي والضمير، هو فعل مقاومة، وفعل بناء داخلي يعزز الحصانة النفسية والاجتماعية.

الانتماء للوطن ليس عبئًا، بل هو تصالح مع الذات، هو نقطة التقاء بين ماضٍ ممتد ومستقبل ننشده، هو اللحظة التي أشعر فيها أنني جزء من حكاية كبرى، حكاية شعب لم يتنازل عن حقه رغم كل محاولات الطمس. وكلما ازداد انتمائي لقضيتي، ازداد شعوري بالكبرياء، وكلما ازداد كبريائي، شعرت بأن لي قيمة، وأن لحياتي معنى يتجاوز حدود الفرد ليصل إلى معنى أوسع، أعمق، وأكثر رسوخًا.

الوطنية ليست موضة، وليست موجة مؤقتة، بل هي جذور، وكلما تعمّقنا بها، استطعنا أن نواجه الرياح بأقدام ثابتة، وأرواح عالية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب