بعد ثمانية عقود: إسرائيل لم تزل غريبة عن طبيعة المكان

بعد ثمانية عقود: إسرائيل لم تزل غريبة عن طبيعة المكان
نهض الشعب الفلسطيني من تحت ركام النكبة التي دمّرت وجوده المادي والسياسي عام 48، ليعيد ترميم كينونته وروحه الوطنية التي أريد لها أن تُقتل، ويبني من خلال مسيرة كفاحه الطويلة والعنيدة من أجل استعادة أرضه وكيانه السياسي…
بعد زهاء ثمانية عقود من إقامتها على أنقاض الشعب الفلسطيني، ما زالت إسرائيل تحارب على وجودها، وتصارع على بقاء كيانها السياسي، أمام الرفض المتعاظم من أهل البلاد وطبيعتها. ومن المفارقة أن تتسبب نيران الحرائق الطبيعية التي تحاصرها في الذكرى السنوية لتأسيسها في إلغاء احتفالاتها الـ77، التي تجري على وقع حرب الإبادة الراهنة في غزة، ومسلسل الاقتلاع والإحلال والتطهير العرقي المتواصل منذ عام 1948.
لقد نهض الشعب الفلسطيني من تحت ركام النكبة التي دمّرت وجوده المادي والسياسي عام 48، ليعيد ترميم كينونته وروحه الوطنية التي أريد لها أن تُقتل، ويبني من خلال مسيرة كفاحه الطويلة والعنيدة من أجل استعادة أرضه وكيانه السياسي، من جديد، ذاته الوطنية وأدوات صموده وبقائه على أرض وطنه، ثم يعود ليشكّل أكثرية عددية في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر.
والأهم من ذلك أن شعبنا، في مختلف أماكن تواجده، لم ينفك يومًا عن أن يشكّل مصدر قلق لإسرائيل، ككيان استعماري غاصب لأرضه ووطنه، تأبى طبيعتها الاستعمارية التعايش بسلام مع واقعها وفي محيطها، مسقطًا أوهام الاندثار، والتلاشي، والتقادم، و”الكبار يموتون والصغار ينسون”، مورّثًا راية العودة من جيل إلى جيل، ومبقيًا جذوة القضية والكفاح مشتعلة رغم كل الظروف، وأكثرها سوءًا.
ولا يعتقدنَّ بن غفير، وغيره من قطاريز الصهيونية الجديدة التي تتلفع بالغطاء الديني، أن إلغاء “مسيرة العودة” إلى القرى المهجّرة، التي ينظمها شعبنا في الداخل منذ ثلاثة عقود تحت شعار “يوم استقلالهم يوم نكبتنا”، هو مصدر قوة، وأنه قادر من خلال ممارساته التعسفية الفاشية “أن يأتي بما لم يأت به الأوائل” من أسلافه في قمع طموحات وتطلعات شعبنا الوطنية، وقتل حقه في العودة وتقرير المصير على أرضه، مثلما يعتقد قرينه سموتريتش أن عربدات المستوطنين وتهجير المخيمات في الضفة ستحقق ذلك، وكما يظن نتنياهو أن حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة ستفتّ من عضد شعبنا، وتدفعه إلى الاستسلام والتخلي عن قضيته العادلة واستعادة حقوقه وإقامة دولته فوق أرض وطنه.
ومن المعروف أن الفاشية، التي هي “تيار سياسي وفكري من أقصى اليمين له نزعة قومية عنصرية”، هي نتاج لأزمة الدولة والمؤسسة، وليس حاصل قوتها، وأن تفاقم هذه الأزمة وتعميقها، في حالة إسرائيل، لا يعودان إلى أسباب داخلية تتعلق بأزمة الحكم فقط، بل هما مرتبطان باستثنائية حالة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المتأخرة عن الموجة الأولى التي شملت أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا)، ودخلت دولها طور ما بعد الكولونيالية، وتحولت إلى دول طبيعية بعد أن قضت على الشعوب الأصلية.
إسرائيل، التي لم تسعفها الظروف الدولية المختلفة وتوازنات القوى في القضاء المادي على أهل البلاد الأصليين، ظنت أنها قادرة على القضاء على الشعب الفلسطيني سياسيًا، وبالتالي تأمين السيادة والأمان لمشروعها الاستعماري فوق أرضه دون عائق، إلا أنها فوجئت بإصرار الفلسطينيين على البقاء والصمود، رغم كل محاولات التهجير والاقتلاع والمحو، وتضاؤل عوامل الدعم والمساندة العربية والدولية.
الشعب الفلسطيني، أسوة بكل الشعوب المناضلة من أجل حريتها، لم يعترف بموازين قوى عسكرية وسياسية واقتصادية، بل استند إلى حقه غير القابل للتصرف في أرضه ووطنه، وإلى إيمانه بعدالة قضيته، واستعداده لأن يبذل في سبيلها الغالي والرخيص. ولذلك، هو يصمد في غزة رغم الحصار والتجويع وحرب الإبادة، وهو يصمد في الضفة رغم سياسة التهجير والاقتحامات وعربدات المستوطنين، وهو باقٍ أيضًا في قلب الوطن، وداخل الداخل، الذي يرفع أهله اليوم علم فلسطين ومفتاح العودة في 530 قرية مهجّرة، رغم أنف بن غفير ونتنياهو وغيرهما من قباطنة الصهيونية.