موديمبي: تناظر استشراق افريقي

موديمبي: تناظر استشراق افريقي
رحل عن عالمنا مؤخراً الناقد الثقافي والروائي والأكاديمي الكونغولي ــ الأمريكي البارز فالنتين ــ إيف موديمبي V.Y. Mudimbe (1941 ـ 2025)؛ مؤلف الكتاب الرائد «اختراع أفريقيا: الغنوسية، الفلسفة، ونظام المعرفة»، 1988، الذي يُقارَن عادة مع كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، 1978. أسباب المقارنة، وربما التناظر المنهجي والزمني، عديدة ومتشعبة، جلّها وجيه؛ وليس أشدّها وضوحاً نطاق الأبحاث التي تشمل الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا والتاريخ والجغرافيا والآداب واللغات والأديان، في بلدان المشرق كما في بلدان أفريقيا، وخلال موجات الاستعمار القديم والحديث.
وأقدار وجود موديمبي في الولايات المتحدة، ورحيله في شابيل هيل، كارولاينا الشمالية، بعد عقود من التدريس في هارفارد وديوك وستانفورد؛ تبدأ في سنة 1980 من اعتذاره عن قبول عضوية اللجنة المركزية التي اقترحها عليه موبوتو سيسي سيكو حاكم الكونغو (زائير، آنذاك)، وتعرّفه إلى الناقد والأكاديمي الماركسي فردريك جيمسون، الذي اقترح عليه التدريس في جامعة ديوك. وكان تتلمذ موديمبي على الشطر الفرنسي من الفلسفة والآداب الغربية، حول أفريقيا خصوصاً، قد قاد إلى تنظيرات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حول العلاقة بين الخطاب والمعرفة والسلطة، كما كانت عليه الحال مع سعيد عند تأليف «الاستشراق».
لكنّ شروط التفكير والتأمل في هذا الإرث الغربي، ثمّ مقاربته في مستوى النقد العميق والاختلاف والمخالفة، كانت متعذرة في زائير/الكونغو، تلك الأيام. ولا عجب، استطراداً، أنّ مآل سفر موديمبي في الولايات المتحدة لبعثة دراسية، شكّل صيغة انعتاق قصوى ونوعية، مثالها الأوّل رواياته الثلاث: «بين مدّ وآخر»، و»قبيل ولادة القمر»، و»الصدع»؛ التي عكست سمات إنسانية وشعورية لأنساق متقاطعة من التيه والاغتراب والتشتت التي يُساق إليها الإنسان الأفريقي، تحت وطأة اختزال أكوانه الأمّ الأصيلة في تنميطات غربية استعمارية. المثال الثاني هو مؤلفات كبرى مثل «اختراع أفريقيا» ورديفه «فكرة أفريقيا»، 1994، حيث يتجلى ذلك التلاقي المثمر اللامع في معمار نقدَين جذريين للترابطات، المرئية عموماً والخافية أحياناً، بين المشروع الكولونيالي والمعارف الإنشائية.
فصول «اختراع أفريقيا» الخمسة تتوزّع على المسائل/ الإشكاليات التالية: خطاب السلطة ومعرفة الآَخَرية، قضية المنهج، وسلطة الكلام، والتباسات بدائل الآخر، وصبر الفلاسفة. ولا يعدم القارئ اختراقات نقدية لامعة بصدد تفكير جان ـ بول سارتر منساقاً إلى أطُر أفريقية، أو رولان بارت تحت أكثر من «قناع» زَنْوَجي، أو الفيلسوف والثائر الليبيري ــ الأمريكي الأسود إدوارد ولموت بلايدن، وقد جرّ فلسفات التنوير إلى مساءلات ثاقبة، بما في ذلك فوكو نفسه في صلاته المضطربة مع الفلسفة الهيغلية بصدد الآخر تحديداً…
ومنذ السطور الأولى في مقدمة الكتاب، يشدد موديمبي على طراز من «أركيولوجيا الفلسفة الصوفية» عن أفريقيا، تحوّل (على أيدي أبحاث غربية، وأخرى أفريقية أيضاً) إلى «منظومة معرفية تُثار في سياقاتها مسائل فلسفية كبرى»، تعاني مع ذلك من معضلتين: الأولى تخصّ الشكل والمحتوى وأسلوب «أَفْرَقة» المعرفة إجمالاً؛ والأخرى ذات صلة بموقع منظومات الفكر التقليدية وعلاقاتها الممكنة مع نوع المعرفة المعياري. في صياغة أخرى، ابتداء من الفصول الأولى التي تناقش الصور الغربية عن أفريقيا، مروراً بالفصول التي تحلل سلطة الأنثروبولوجيين والبعثات التبشيرية والأيديولوجيين والفلاسفة؛ يركّز موديمبي على سيرورات نقل المعرفة في مستويات الإنشاء أو الاختلاق أو التلفيق أو التمثيل، عبر الحوامل الاستعمارية على اختلاف طرائق اشتغالها.
بذلك، فإنّ بعض أبرز خلاصات «اختراع أفريقيا» أنّ حصيلة المعارف الغربية عن أفريقيا تخسف الكثير من عناصر الأصالة الأفريقية، إنسانياً وثقافياً وأنثروبولوجياً، ثمّ سياسياً بالتالي وبالضرورة، من جهة أولى. كما أنها، استطراداً، تفرط في التشديد على ما هو خارجيّ عن تلك الأصالة الأفريقية، وما هو غريب عنها بهذا القدر أو ذاك، مثل التأثيرات الأنثروبولوجية والدينية، من جهة ثانية. يكتب موديمبي: «حقيقة الأمر أنّ المفسّرين الغربيين وبعض المحللين الأفارقة أيضاً، استخدموا مقولات ومنظومات مفهومية اتكأت أصلاً على النظام الإبستمولوجي الغربي. حتى في التوصيفات الصريحة الأكثر التفاتاً إلى المركزية الأفريقية، ظلت نماذج التحليل معتمدة على النظام ذاته، صراحة أو مواربة، عن سابق قصد أو عن جهل».
وفي الفقرات الأخيرة من كتابه، يلجأ موديمبي إلى اقتباس الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ـ ستروس: «من المفيد أن ينأى التاريخ عنّا قليلاً بعض الوقت، أو أن ننأى عنه قليلاً في الفكر، كي نتفادى استدخاله وخسران قواعد استيعابه، حيث الفهم المتسرع يخدم الاستيعاب المؤقت». كأنّ ابن الكونغو يردّ البضاعة إلى الفرنسي سليل فلسفة الأنوار، وقد يكون البادئ أظلم في هذه الحال!
ليس في وسع هذا العمود الذهاب أبعد، بمعنى المضيّ أعمق، في عرض منهجية موديمبي وأفكاره، خاصة تلك التي تتلاقى على نحو خلاق مع منهجيات وطرائق تحليل سعيد في «الاستشراق» أو «الثقافة والإمبريالية»، 1993؛ والطموح أن يكون هذا المقام قد سمح بتحية قامة أفريقية شامخة، تكفّلت بتشريح خبايا تلك «المكتبة الكولونيالية»، حسب تعبيره، التي زجّت عبقرية أفريقيا وثقافاتها التعددية الخصبة في سلسلة اختزالات قاصرة أو انتقاصية؛ لم تتأخر قطّ، مع ذلك، عن خدمة الجنرال الغربي الغازي، وتعبيد الطرق «المعرفية» أمام جيوشه الاستعمارية الزاحفة.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس