
قل للمليحة: قصة الخمار الأسود في الشعر والدعاية

مروة صلاح متولي
قل للمليحة في الخمار الأسود… ماذا فعلت بناسك متعبد. من أشهر الأبيات الشعرية المحفوظة والمتداولة والمغناة، هي أبيات قديمة ظلت حية، وعرفت طريقها إلى الذاكرة العربية، وإلى عالم الموسيقى، خصوصاً في بلاد الشام في المشرق العربي، حيث تعد من القطع الغنائية المسموعة والمفضلة لدى الكثيرين، وقد ناسبت الذوق الفني وأساليب الغناء هناك. يروى عن قصيدة «قل للمليحة في الخمار الأسود»، أنها كانت أقدم أسلوب دعائي عند العرب وأكثره جدة وطرافة في الوقت ذاته، فيقال إنه كان هناك تاجر يبيع الأخمرة التي ترتديها النساء في ذلك الوقت لتغطية الرأس، وأنه باع جميع الألوان من تلك الأخمرة ما عدا الأخمرة السوداء، فالنساء أقبلن على الألوان المختلفة كلها، ما عدا اللون الأسود، وهكذا ظل جزءاً من البضاعة لدى هذا التاجر كاسداً لا يروج ولا يباع، وتسبب له في خسارة مالية، فاشتكى التاجر إلى صديقه الشاعر ربيعة بن عامر الدارمي المعروف بلقب المسكين الدارمي، فأنشد الشاعر الأبيات المشهورة التي تقول:
«قل للمليحة في الخمار الأسود.. ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه.. حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وقيامه.. لا تقتليه بحق دين محمد»
وذاعت وانتشرت وترددت على الأسماع، وفعل الخيال أفاعيله في الأذهان، وتحققت آثاره على أرض الواقع، وصار النساء يقبلن على الخمار الأسود ويبحثن عنه ليشترينه ويرتدينه، فكل امرأة تريد أن تكون هي المليحة في الخمار الأسود، ولا تجد بأساً في أن تثار حولها الشبهات، وأن تلاحقها الشائعات بأنها هي المليحة التي تغزل بها الشاعر، لا أي امرأة أخرى سواها. وربما تريد أن تكرر التجربة مع شاعر آخر أو مع رجل آخر، أن تكون مصدراً للغواية بخمارها الأسود، وأن تذيب قلوب العاشقين تحت سطوة حسنها وبهائها. وهكذا حصلت النساء على قطعة من القماش، وعلى بضع كلمات جميلة تظن أنها هي المقصودة بها، وأنها الملهمة لها، أو تتمنى أن تكون كذلك، وتحلم بأن يكون لها الأثر ذاته على رجل ما يخر منهاراً أمام فتنتها، حصلت النساء إذن على الوهم الجميل، بينما حصل الرجال على الأموال والخلود، فالتاجر عوض خسارته وكساد تجارته بأموال وأرباح مضاعفة، والشاعر احتفظ لاسمه بمكان في التاريخ، وهو ليس من كبار الشعراء، حيث لا تزال أبياته إلى اليوم باقية تتردد ويحفظها الكثيرون، ويتغني بها المطربون الكبار في العالم العربي. والمعروف أن النساء في وقتنا هذا ومنذ القدم، على ما يبدو، لطالما كن هدفاً تسويقياً ممتازاً، وربما الهدف التسويقي الأهم على الإطلاق، فكم من خزائن امتلأت بفضل إنفاق النساء على الأزياء والأحذية والحقائب والمجوهرات والعطور ومستحضرات التجميل وغيرها من الأمور.
وفي حمى التسويق والبيع التي لا تهدأ، تظل النساء مصدراً مستديماً لإشعال تلك الحمى وإذكاء جذوتها، التي يحرص المسوقون والبائعون على أن تظل متقدة، والتسويق بحر واسع وفن له أصوله وقواعده، وعلم له ضوابطه وألاعيبه أيضاً، فهناك التغيرات السريعة المتلاحقة لاتجاهات الموضة، وخلق الصيحات الحديثة المتجددة باستمرار، وصناعة الرغبة لدى المرأة إن لم تكن موجودة، وخلق الشعور لديها بضرورة اقتناء هذا الشيء أو ذاك وإلا تكون قد تخلفت عن ركب الأناقة ومسيرة الموضة، هي إذن عملية توجيه مباشرة أو غير مباشرة ذات هدف اقتصادي بحت وإن كان له أثره في نشر الجمال.
قل للمليحة والغناء العربي
تغنى بهذه الأبيات الشعرية كبار المطربين العرب كناظم الغزالي وصباح فخري وغيرهما، ويتم غناء القصيدة عادة كإلقاء ملحن مع الكثير من التمديد، ويغنيها ناظم الغزالي بما يشبه الموال مع بعض الآهات والليالي، مع الارتجال والإعادة والتكرار، ويتم توظيفها كافتتاحية للغناء. بينما يغنيها صباح فخري بشكل أكثر ميلودية مع الكثير من التقسيمات والإطالة والإعادة، فيتم تقسيم الأبيات إلى مقاطع صغيرة، ويتم استعراض القدرات الصوتية الباهرة من خلال كل قسم من هذه الأقسام.
بعيداً عن السبب الحقيقي وراء هذه الأبيات الشعرية، وفق ما يروى ويقال، فإن الشاعر قدّم جرعة جمالية من خلال كلماته القليلة، ورسم صورة شعرية حول الغزل والخلاعة، والضعف الذكوري أمام النساء وفتنة الجمال، حتى إن كان الرجل عند باب المسجد يهم بالصلاة ويشرع في أداء العبادة. فالشاعر في أبياته يركز على العبادة والصلاة والدين بشكل أساسي، فالمرأة المليحة ذات الخمار الأسود لم تهدده في أي شيء سوى دينه وصلاته وعبادته، فهي لم تشغله عن عمله مثلاً، ولم تؤرق نومه، وإنما أصابته في أمر بالغ الحساسية والخطورة كالدين، بالطبع هي مبالغة شعرية قصدها الشاعر، وربما جاءت متسقة مع الفترة الزمنية، التي كان يعيش فيها، والبيئة والسياق المجتمعي من حوله، المحافظ بطبيعة الحال والمتدين بدرجة كبيرة. فالقصيدة حسبما هو شائع أنشدت في المدينة المنورة، التي كانت مسرح الحدث عندما التقى التاجر بالشاعر، وتولدت فكرة الدعاية عن طريق الشعر. الدعاية هنا ذكية وغير مباشرة، لم يذكر فيها الخمار الأسود سوى مرة واحدة فقط، وجعله هو العلامة المميزة الوحيدة لهذه السيدة، بعد صفة الجمال، لكنه صنع قصة خيالية حول هذا الخمار الأسود، وخلق هالة من الإثارة والجمال الفاتن إلى درجة سلبت الرجل دينه، وظل يرجوها أن ترده إليه. كما قد يبدو للبعض عند التأمل في هذه الأبيات، أن هذا الربط بين الغزل والتدين، إنما جاء من أجل تمرير هذا النوع من الشعر، فكما فيه الغزل والخلاعة فيه أيضاً الحرص على الدين وذكر المسجد والصلاة والتعبد ودين محمد، وكذلك كان لخلق هذا التقابل بين الجمال الفاتن والدين والعبادة الأثر القوي في التأكيد على شدة هذا الجمال وقوته، إلى درجة أن يزعزع إيمان الرجل، ويجعله ينسى ما كان عنده من زهد وورع وانقطاع للعبادة.
هي أبيات شعرية قيلت بهدف الترويج والتسويق لخمار أسود، كان كاسداً لا يباع، فحظيت هي أيضاً إلى اليوم بالرواج كما لو أنها تحمل في داخلها أسرار دعايتها، وكما يجب أن يكون الإعلان قصيراً مختصراً يستطيع أن يصل إلى أهدافه في أقل وقت ممكن وبرسائل مكثفة، جاءت هذه القصيدة الصغيرة، أو هذه الأبيات الشعرية قصيرة للغاية هي الأخرى، بل خاطفة مضغوطة المعاني والصور، فالشاعر كان يعي أنه لو كتب مطولة أو معلقة في الخمار الأسود، لم تكن لتأتي بهذا الأثر السريع الفعال، وتحقق المطلوب وما هو أكثر من المطلوب، وكان يعي كذلك ضرورة تغليف الدعاية بغلاف جمالي يقلل من حدتها ومباشرتها التي قد تنفر البعض منها. كذلك حقق الشاعر المعادلة الصعبة بأن جمع بين جمال الإبداع والهدف التجاري، فحصل على المكسب المالي وتم حل المشكلة من ناحية، ومن ناحية أخرى ترك لعالم الشعر ومضة جمالية باقية إلى اليوم، وهذا دليل جديد على أن الجمال الحقيقي يبقى ويستمر وجوده حتى إن كان إعلاناً.
كاتبة مصرية