ثقافة وفنون

فلسطين حرّة من النهر… إلى الشاشة!

فلسطين حرّة من النهر… إلى الشاشة!

رياض ملحم

في كتابه «رؤية المغلوبين»، يشير ميغيل ليون بورتيّا إلى أنّ الحضارات الأصلية للقارّة الأميركية كحضارة المايا والناهوا، كانت واعية بدرجة كافية لأرشفة تاريخها فوق المسلّات، والشفاه والصور، والأهم عبر «أناشيدها الشعرية الحزينة».

يقول بورتيّا إنّ أقوام الناهوا والمايا الذين اعتنوا كثيراً بحفظ ذاكرة أحداثهم الماضية، لم يتركوا لفعل النسيان أن يزيل الحدث الأكبر والأكثر مأساويةً في تاريخهم، ألا وهو أخذ أرضهم من قِبل الرجال الغرباء القادمين عبر البحر، الذين دمّروا إلى الأبد أساليب حياتهم العريقة.

صوت المهمّشين في الأرض

يكمل بورتيّا أنّ تلك الأقوام وجدت أنّ التعبير الطبيعي عن ذلك يكمن في مقدرة الشعراء الذين بقوا على قيد الحياة، على كتابة الأناشيد الحزينة التي تؤرّخ للأجيال اللاحقة عن كيفية ضياع الشعب المكسيكي وحصار أراضيه في «تينوشتيتلان»: «في الطرقات ترقد سهامٌ مكسّرةٌ وشَعرٌ بشريٌّ مبعثرٌ/ البيوت صارت بلا سقوف وجدرانها محمرّة/ الديدان تتزاحم في الشوارع وعلى الجدران أدمغةٌ ملطّخة/ المياه صارت حمراء كما لو أنّها مصبوغةٌ ونشربها كأنّنا نشرب ماءً أَجاجاً/ لقد أجَنَ الماءُ والطعام/ وميراثنا شبكة من الثقوب/ آهٍ! إلى أين نحن ذاهبون يا أصدقائي؟/ لقد مضى المكسيكيّون عبر البحر/ الدخان يرتفع والضباب ينتشر/ هل ما يجري حقيقة؟/ ابكوا يا أصدقائي/ وليكن في علمكم أنّنا هكذا قد خسرنا الأمّة المكسيكية».

بهذه الأنشودة الحزينة، المكتوبة عام 1523، تبرز الضرورة الملحّة في أنْ يكون للمقهورين والمهمّشين في الأرض، صوتٌ، وإن كان خافتاً، فذلك يحول دون ضياع تضحياتهم، ليس فقط للحفاظ على أراضيهم وأوطانهم، إنّما من أجل حقّهم بأن يظلّوا حاضرين في التاريخ ولو لم يعودوا موجودين.

بهذه المحاولات التي كُتِب بعضها بالأظفار ـــ يقول بورتيا ــ عرفت الأجيال اللاحقة للشعوب الأميركية الأصلية كيف سُرقت أراضيها ودمّرت ثقافتها.

كان شعراؤها المنخرطون في عملية إنتاج الوعي التاريخي حاضرين في ذلك في مقابل سرديات الأوروبّي الذي أراد أن يفتح «أرضاً بكراً ويقضي على الهمجية فيها».

«البطيخ» يزهر في شيكاغو

ضمن هذا المنطق، تأسّست قبل عام شركة Watermelon pictures (تحمل اسم «البطيخة» رمز التضامن مع فلسطين) في ولاية شيكاغو الأميركية، كمنصّة سينمائية في صناعة الأفلام، ذات مهمّة محدّدة هي: تغيير السردية السائدة حول الشعب الفلسطيني والمجتمعات المهمّشة في العالم، في مواجهة احتكار المؤسسات الغربية وتشويه كل سرديات الشعوب التي مارست وتمارس عليها هيمنتها.

ينحصر عمل Watermelon pictures في إنتاج أفلام تعكس معاناة الفلسطينيين، ليس بُغية تقديم عمل إبداعي فقط، بل أيضاً لجعل الكاميرا أداة نضاليةً في سياق الصراع الحاصل، ولا سيّما توظيفها باعتبارها ناقلاً للحقيقة وسارداً للمأساة عبر الصورة.

يعتبر بول ريكور أنّ السرد هو أحداث نُقَطية تتضمّن سبباً ونتيجةً، وعلى السارد أن لا يكتفي بسرد تلك الأحداث، إنّما ربط أسبابها بنتائجها.

سردية مضادّة

ضمن هذا السياق، تطرح Watermelon pictures مشروعها في تقديم رواية مضادّة لما يتمّ الترويج له. إنّ تحويل تاريخ الشعوب إلى «شائعة يتمّ سردها» هو الذي يجب الوقوف بوجهه وقلبه، أي إنّه على السردية الأصلية أن تسود وتشيع ويُصغى إليها.

هنا يحاول مؤسّسا Watermelon pictures حمزة علي وباديعلي، تحويل عدسة الكاميرا إلى عدسة قنّاصة تحدّد موقعها من الصراع ومن الجبهة التي تقف إلى جانبها.

ولذلك، إنّ كلّ الأعمال التي موّلاها وكانا جزءاً منها، تتضمّن دلالات واضحة تضيء على حقّ الفلسطيني بالترويج لحقيقة مأساته التي تتضخّم، ومظلوميته التي تزداد وعدالته التي تتضاءل.

في قلب «المخيّمات»

يُقدّم وثائقي «المخيّمات» (The Encampments ـــ إخراج مايكل تي. وركمان ـــ الرابر الأميركي ماكليمور هو المنتج المنفّذ) رؤيةً مُوجّهةً بعناية لتستهدف شرائحَ الجمهور الأكثر عرضةً للتأثّر بالرواية الغربية عن الصراع. يركز العمل، الذي عُرض في عدد من الصالات الأميركية، على الاحتجاجات الطالبية في «جامعة كولومبيا» تأييداً للقضية الفلسطينية، مع تسليط الضوء على رفض الطلاب لما وصفوه بـ«الإبادة» في غزة.

تعزيز الرواية الفلسطينية عبر منصّات مستقلة وسيلة حيوية لكسر احتكار المعلومات

يتبنّى العمل خطاباً واضحاً عبر توثيقهم للاعتصامات، مع تركيز مقصود على العناصر التي تعزز الرواية الفلسطينية، مستهدفاً بذلك الجمهور الأميركي الشاب والأكاديمي الأكثر انفتاحاً على انتقاد السياسات الإسرائيلية.

هذا الاختيار الإخراجي يجعل من العمل أداةً تأثيرية مُصممةً بعناية لتغيير التصورات ضمن دائرة محددة من المشاهدين.

لا يكتفي الفيلم بتسجيل الأحداث، بل ينقل التجربة الحسية الكاملة للاحتجاج ـــ من حرارة الشمس في النهار إلى برودة الليالي ـــ من التوتر في لحظات المواجهة إلى لحظات المرح والترابط الإنساني التي حافظت على الروح المعنوية. هذا النهج السينمائي يمنح المشاهدين فهماً أعمق لما يعنيه أن تعيش الاحتجاج يوماً بعد يوم، وليس فقط أن تشاهده من الخارج.

يُقحم الفيلمُ المُشاهدَ في صميم الأحداث، فينقلهُ إلى قلب الساحات الجامعية حيث تتدفّق الهتافات وتعلو الخطابات. لا تكتفي العدسةُ بتوثيق لحظات التظاهر، بل تغوص في تفاصيل الحياة اليومية للحركة الاحتجاجية: أنغامٌ يتراقص عليها الطلاب، موائدُ طعامٍ يتشاركونها، وقصائدُ يتداولونها. هذه التفاصيل الحميمية تكشف عن النسيج الاجتماعي الذي حافظ على استمرارية الحركة وحيويتها.

وبالتالي، لم يقدّم فريق العمل توثيقاً سطحيّاً لحالة الاحتجاجات فقط، إنّما صوّر الاعتصام بوصفه ظاهرة ثقافية واجتماعية نابعة من خضم الحدث السياسي، فلم يعد الموقف السياسي إذّاك خطاباً يبرّر أو يرفض فقط، بل تحوّل إلى سياق إنساني شامل ومترابط، إذ يظهر بصفته ممارسةً يومية حيّة، حاملة لسردية أصيلة وأصلية تعطي لمعتنقها معنى أكثر صواباً وأشدّ يقيناً.

إعلاء صوت الضحية

لا يتّسع المجال لتقديم الأعمال كافةً التي أُنتجت من قبل الشركة، ولكنّه يكفي أنْ نسلّط ضوءاً كاشفاً يختزل زاوية أساسية من زوايا الصراع ضمن إطار تزداد أهميته إلحاحاً وضرورةً وهو تشكيل سرديتنا كما يجب وبثّها ونشرها وتعميق معناها وجعلها أكثر صلابةً كيلا تتفكّك وتتلاشى، وكيلا تتحوّل القضية في زمن سيّال وسريع كزمننا إلى قصّة نبكي على أطلالها.

وعليه فمن شأن الإصرار على رواية سرديتنا أنْ يؤسّس ـــ كما يقول الأخوان علي ـــ لمجتمع عضوي يكون كل أفراده منخرطين وواعين لضرورة تصحيح وترويج ثقافة قضيّتهم وإرثها ونضالاتها وامتلاك كل الأجوبة عن أسئلة لا تنفكّ تسأل ماذا حدث وكيف ومتى وأين ولماذا… في عصر تتضاعف فيه قوة السرديات في تشكيل الوعي الجمعي وصياغة المواقف السياسية، لا بدّ من أنْ تبرز القضية الفلسطينية كواحدة من أكثر القضايا التي تعاني التزييف المنظّم والممنهج في الإعلام والفضاء الثقافي الغربي.

بينما تمتلك القوى الاستعمارية ومن يدعمها ترسانةً إعلامية ضخمة تُحوّل الاحتلال إلى «دفاع عن النفس»، وتُصوّر الشعب الفلسطيني إما كضحية صامتة أو كتهديد إرهابي، تُحاك الحقائق وتُسرق الرواية الأساسية للقضية التي تحتّم علينا أنْ نؤكد دائماً على عدالتها التاريخية وكذلك على حقوق شعبنا الفلسطيني غير القابلة للتصرف.

مواجهة التضليل والرواية الصهيونية

في هذا السياق، يصبح إنشاء منصّات فعّالة تروّج للسردية الفلسطينية الأصلية في المجتمعات الغربية ضرورةً حتمية، ليس فقط لمواجهة التضليل الإعلامي، بل أيضاً لفضح الدور الذي تلعبه المصالح السياسية الغربية في تدعيم الرواية الصهيونية.

فالقضية الفلسطينية ليست مجرد صراع على الأرض، بل هي معركة وجودية ضد آلة استعمارية استيطانية تدعمها أدوات ثقافية وإعلامية جبّارة، تهدف إلى طمس الهوية الفلسطينية وتبرير الاستمرار في انتهاك الحقوق.

لذا، فإنّ تعزيز الرواية الفلسطينية عبر منصّات مستقلة، إبداعية، ومؤثرة، يصبح وسيلةً حيوية لكسر احتكار المعلومات، وإعادة توصيل صوت الفلسطينيين بحقيقتهم، وخلق تحالفات تضامنية عالمية تقوم على الفهم العميق للظلم التاريخي الذي يتعرضون له. فهذه ليست معركة فلسطينية فقط، بل معركة لكلّ أحرار العالم الذين يؤمنون بأنّ مقاومة التزييف هي الخطوة الأولى نحو تحقيق العدالة.


شاهدوا +Watermelon

اعتباراً من اليوم، سيتاح للمشتركين (مقابل 7,99 دولارات شهرياً) في جميع أنحاء العالم أن يشاهدوا الأفلام المتوافرة على منصة +Watermelon خدمة البث الجديدة التي تضمّ أرشيفاً شاملاً للأفلام الفلسطينية والعالمية المتضامنة مع القضية. وتتضمن المنصة أعمالاً من إنتاج الشركة وأفلاماً جديدة ومسلسلات حصرية بالإضافة إلى كلاسيكيات.
ومن الأفلام المهمّة التي تتيحها المنصة فيلم «الأستاذ» الروائي الطويل الأول للمخرجة فرح النابلسي، التي كانت قد حصلت سابقاً على ترشيح للأوسكار عن فيلمها القصير «الهدية»، و«من المسافة الصفر» (سلسلة من 22 فيلماً قصيراً لمخرجين فلسطينيين تحت إشراف المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي والإنتاج بإدارة المخرج الأميركي اليساري المعروف مايكل مور)، بالإضافة إلى «عمر» لهاني أبو أسعد (الحائز جائزة لجنة التحكيم عن فئة «نظرة ما» في «مهرجان كان السينمائي» عام 2013) وغيرها.

watch.watermelonpictures.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب