
قصص من المستشفى بعد أن جرى فتحها!

حسن داوود
قبل أن يُلحَق بمكتبة الجامعة الأمريكية قضى زياد كاج ما يقرب من خمسة عشر عاما كاتبا في مستشفى تلك الجامعة. لكن عبارة «كاتب» هنا لا تحمل الوجاهة التي تحفل بها عادة، فالكاتب في مستشفى يكاد يكون بين الأدنى رتبة بين الموظّفين. ذاك أن عمله لا يتيح له أن يوجّه أمرا إلى أحد، شأن ما يفعل الأطباء ومن بعدهم الممرضات والمسؤولون عن إدارة الطوابق، إلخ. من موقعه ذاك يروي لنا كاج عن أحوال المستشفى في سنوات الحرب، وما أحدثه الاقتتال فيها من تغيّرات، وكيف كان يعالج جرحى المواجهات وقتلاها في قسم الطوارئ، الذي لطالما أمعن الإعلام المحلي والخارجي في وصف فظاعة ما تحمله الحرب إليه.
من مكانه ذاك يذكر كاج تفاصيل لا تحصى عن ذلك الاختراق الذي من قبيله أيضا قبوله هو نفسه موظفا في الجامعة. أتاحت ذلك وساطة قام بها عمّه «محمد خير كاج، أبو حسن، التاجر البيروتي العتيق»، كما هو وارد في إهداء الكتاب المرفق بصور شمسية لذاك العمّ. لم يكن الحصول على هذه الوظيفة سهلا في زمن ما قبل الحرب، إذ حتى الدخول إلى صرح الجامعة الواسع، مجرد الدخول، كان يجري بتسلّله قفزا من خلف السور الذي يفصل الجامعة عن العالم الخارجي. هكذا كان يفعل الشاب كاج قبل انتسابه إلى ذلك الصرح. وكذا كان يفعل الشبان البيروتيون، الذين لم تكن مفتوحة لهم أبواب الجامعة. كان «الكامبوس»، لمن أمكنت له معرفته، قطعة من مكان خيالي منقولة بتمامها من بلد آخر، وكان بعض هؤلاء يستشهدون بما كان يقال، إنه الأجمل بين الجامعات الأمريكية في العالم كله.
وقد أمكن للخارج الحربي أن يقتحم ذلك العالم، اخترقت الفوضى الأمنية كل ما يحتويه الصرح العريق والضخم، وهذا ما لم تنجُ منه الجامعة ومستشفاها، إلى حدّ أن إدارتها أبلغت المؤسسات التي تختار موظفيها من الخريجين أنها لا تضمن كفاءتهم، رغم حصولهم على شهادات التخرج، في سنوات انفلات السيطرة التعليمية والإدارية تلك. أما في ما خصّ المستشفى فإن النوادر التي كان يسمعها اللبنانيون ويروونها عما آلت إليه أحوالها كثيرة، ومنها حكاية أحد المسلحّين، وقد طابت له الإقامة هناك، أصر على البقاء في إحدى غرف المرضى أشهرا تلو أشهر.
يروي كاج عما أحدثه نفود المتدخلين المتنوّع في كل من الطوابق، والمتنوع كذلك بين القسم الشمالي والقسم الجنوبي في كل منها. أن يُنقل هو من الخامس إلى السابع فهذا يعني دخوله إلى عالم تختلف فيه علاقات العمل والصلة بين العاملين مع بعضهم بعضا، كما صلتهم بالمرضى المقسّمين تبعا لأمراضهم. كأن الطوابق والأقسام متنافرة متباعدة وغير خاضعة لإدارة واحدة. وقد ارتفع تأثير الخارج إلى حد أن يصير الانتساب الحزبي لبعض الأطباء محدّدا لمكاناتهم، هكذا على نحو ما هو جارٍ في مؤسّسات البلد التمثيلية والسياسية.
في مكان ما من الكتاب، أمكن لنا أن نقرأ لائحة تُرجع أطبّاء إلى مرجعهم السياسي والحزبي، الذي يستمد منه نفوذه داخل المستشفى. (ما في حدا أحسن من حدا)، كما كان يمكن أن يعلّق الكاتب زياد كاج الذي كثيرا ما يعود إلى العامية، كلاما ومجازات، ليمكن تعداد الاختلافات بين عشرات الأشخاص الذين أمعن في وصفهم. كما لم تخلُ العلاقات الداخلية بين العاملين مما صار عليه الحال في الخارج: «علمت لاحقا أن صديقي خفيف الظل كان مجبرا على القيام بخدمات «خلف السور» لمديره في مكتب الخول». لكن في بعض المشادات بين الموظفين كانت عبارة مستعادة من زمن المستشفى السابق على الحرب كافية لإيقاف التنازع: «خلينا نكون بروفيشينال»، كأن تلك الكلمة الإنكليزية الواحدة ظلت كافية لتذكير الناس بما يجب أن تكون عليه تصرّفاتهم.
فيما يقلّب صفحات الكتاب، لا يتوقّف القارئ عن التعجب من قدرة المحاربين على تهديد مؤسسة بهذه العراقة، في وقت ما كان رفاق محازبون لهم يُعالجون في غرف الطوارئ. تفاصيل كثيرة أوردها كاج عن كيف حُوّلت غرف المرضى إلى سكن منزلي عادي راح نزلاؤها يعدّون فيها طبخهم بأيديهم، وكيف أن غرفا أخرى استخدمت للمنام، إذ يخرج المقيم في إحداها نهارا ليعود إليها في الليل.
يظل زياد كاج ساعيا في نقلنا إلى أبنية وأحياء جرت فيها التحولات المختلفة أشكالها وألوانها. يعزّ عليه ربما أن يبقى ما عرفه وعاشه قائما في ذاكرته وحدها. في كتابه «بناية تي. في. تاكسي» لم يترك شقة واحدة من شقق المبنى الضخم، إلا ودعانا إلى الدخول إليها والتعرّف إلى أهلها. كذلك أوسع من وصفه لراس بيروت الذي أحبّه. مع قراءة كل كتاب جديد نروح نقول إن موضوعها يجري عن حياة أخرى عاشها زياد وليس فقط عن مكان آخر أقام فيه. الأغلب أن الحرب المغيّرة للأمكنة والمهدّدة بزوالها كانت دافعه إلى الظنّ أن في الكتابة دعوة للعالم الجميل إلى أن يعود من جديد.
الكتاب سردية لزياد كاج بعنوان «خلف السور» وهو يؤرخ لأربعين سنة عمل في الجامعة الأمريكية ـ بيروت. المقاطع أعلاه ارتكزت على نصف الكتاب الأول الخاص بعمل الكاتب في المستشفى الأكثر تأثرا بالحرب. صدر الكتاب عن دار نلسن في 223 صفحة سنة 2025
كاتب لبناني